حتى أكثر المُتزمتين الإسرائيليين، باتوا يُقّرون اليوم، بعد مرور عقدٍ من الزمن على حرب لبنان الثانيّة (صيف العام 2006) أنّ مجزرة الدبابات في وادي السلوك بالجنوب اللبنانيّ، كانت معركة مفصليّة من الناحية الإستراتيجيّة في تاريخ الصراع العربيّ-الإسرائيليّ: دبابّة “الميركافا”، التي اعتبرتها إسرائيل مثل جيشها لا تُقهر، تهاوت الواحدة تلو الأخرى أمام صواريخ حزب الله.

إسرائيل خسرت المعركة بالضربة القاضيّة، وسارعت الصين لإلغاء عقد كبير لشراء مئات الدبابات من هذا الطراز، وإنْ لم يكفِ هذا التقهقر، جاءت حركة المُقاومة الإسلاميّة (حماس) وبأسلحتها الـ”بدائيّة”، تمكّنت من تدمير دبابّة “الميركافا”، لتُعلن إسرائيل، بشكلٍ غيرُ رسميّ، أنّ الدبابّة، فخر الصناعة العسكريّة الإسرائيليّة، باتت في خبر كان.

وفي هذه الأيّام، التي تُحيي فيها دولة الاحتلال مرور 10 أعوام على العدوان على لبنان، بدأ ينقشع الغبار عمّا جرى في تلك الحرب، ولم يتوانَ المُحللون والخبراء وصنّاع القرار عن الاعتراف بأنّ الجيش الإسرائيليّ لم يتمكّن من دحر المُقاومة اللبنانيّة، لا بل على العكس، الدولة العبريّة التي بدأت بالعدوان، باتت في الأيّام الأخيرة من الحرب “تستجدي” وقف إطلاق النار، دون أنْ تُحقق الأهداف، ودن أنْ تجبي حساب بنك الأهداف الذي وضعته قبل شنّ العدوان.

ومن التسريبات في تل أبيب، يتبين أنّ إسرائيل راهنت على اختراق الخطوط الدفاعية للمقاومة. وهدف الهجوم البريّ المرتكز على سلاحي الجو والمدرعات إلى احتلال المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني بالالتفاف عليها من محاور عدة.
ومن المؤكّد أنّ نجاح الهجوم البريّ كان سيفتح آفاقًا جديدةً تغيّر اتجاه الحرب وتعيد تعزيز الرهانات لدى واشنطن وآخرين. كما كان سيُعزز منطق جيش الاحتلال ويغريه بالمزيد من التوسع. لكنّ النتيجة التي تمخضت عنها المعارك الضارية أنهت رهانات إسرائيل، ومَنْ يقف وراءها.

وواجه سلاح المدرعات الإسرائيلي هزيمة موصوفة حطمت أسطورته وتحولت معه دبابات “الميركافا” إلى قطع معدنية متناثرة بفعل صواريخ المقاومين. ظهَّرت المواجهات الانكسار الميداني بأجلي صوره، وشكّلت صورة مكبّرة لمجمل الفشل الذي واجهه الجيش الإسرائيليّ طوال الحرب، وخصوصًا بعدما استفاقت إسرائيل، مصدومة، على عشرات القتلى والجرحى وعشرات الدبابات المحترقة في محاور التوغل البري الواسع.

ومع الفشل المبكر للمعركة البرية الكبرى أنهت إسرائيل خياراتها الميدانية، وبات يقينًا لدى قادتها، من المُستويين الأمنيّ والسياسيّ، أنّها لم تعد قادرة على الاستمرار وتوفير البضاعة التي كان يأمل الأمريكي، وآخرون في لبنان والخليج، الحصول عليها، ما دفعها إلى السعي لوقف الحرب.

ولا غضاضة في هذه العُجالة من التذكير بأنّ العربيّة السعوديّة أصدرت بيانًا رسميًا مع بدء العدوان قالت فيه إنّ حزب الله أدخل لبنان في مغامرةٍ غيرُ محسوبةٍ. وهكذا بدلاً من أنْ يُعدِّل الجيش الإسرائيليّ معادلات الميدان وتغيير صورة الحرب، كانت النتيجة أن تعمقت الهزيمة وأضاف مقاومو حزب الله إلى إنجازاتهم انجازًا نوعيًا غير مسبوق، في المواجهة المباشرة على أرض المعركة حفر عميقًا في الوعي الإسرائيلي. وتحولت هذه المجزرة إلى معلم ومحطة مفصلية في حركة الصراع مع إسرائيل.

ونتيجة ذلك، بات النصر الاستراتيجيّ التاريخيّ أكثر تألقًا، وأكثر تأثيرًا في الوجدان الإسرائيلي، وفي الوعي العربي، وفي المعادلات الإقليمية. وبحسب المصادر في تل أبيب فإنّ إسرائيل كانت أمام خيارين، أحلاهما مر: عملية برية واسعة أوْ وقف الحرب. كانت دون السيناريو الأوّل مخاوف المستويين السياسي والعسكري من خسائر بشرية قد يواجهها الجيش. ويعود ذلك، أساسًا، إلى كيّ الوعي الذي حفره حزب الله عميقًا بفعل تجربة المقاومة في الحزام الأمني، في الوجدان الإسرائيلي قيادةً وشعبًا. كما يعود إلى معلومات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية حول جاهزية حزب الله بعد تحرير 2000، وتعزّز ذلك أكثر خلال المواجهات التي شهدتها بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب والطيبة والخيام وغيرها من البلدات. من هنا كان حرص صنّاع القرار السياسيّ والعسكريّ على تجنب اللجوء إلى خيار العملية البرية الواسعة، وهو ما أقرّ به تقرير “فينوغراد”، ودراسات عدة تناولت الحرب، فضلاً عن أنّ الأداء العملاني طوال مجريات الحرب أكد هذا المفهوم.

في المقابل، كان وقف الحرب يعني إقرارًا بالفشل، كما أكّد نائب مستشار الأمن القومي في مقاربته التي نشرها معهد أبحاث الأمن القومي، بالقول: عارضت الإدارة الأمريكية وقفًا لإطلاق النار، لأنّها أرادت ضربة قاصمة لحزب الله عبر الجيش الإسرائيلي. وأيّ وقف سريع لإطلاق النار كان يعني تعذر التوصل إلى تغييرٍ فعليٍّ في الوضع. وهو ما دفع وزيرة الخارجية الأمريكيّة، كوندوليسا رايس، في 19 تموز (يوليو) 2006، إلى الرفض العلني لدعوة وقف النار.

وقد تبيّن، من خلال وثائق كُشفت بعد الحرب، أنّ هذا المفهوم كان حاضرًا أيضًا لدى القيادة الإسرائيلية، عندما رفضت الاكتفاء بما جرى تنفيذه من ضربات والرهان على مفاعيله الردعية لاحقًا. ومن الواضح أنّ خلفية هذا الرفض يعود إلى أنّ تل أبيب كانت ترى أيضًا أنّ ذلك يعني فشل تحقيق الأهداف السياسية والإستراتيجية من الحرب، وخروج حزب الله منتصرًا.
وغنيٌ عن القول إنّ تدمير البارجة الحربيّة الإسرائيليّة، الأكثر تطورًا وتقدّمًا، على شواطئ بيروت، والتي أعلن عنها سيّد المُقاومة، حسن نصر الله، ببثٍ حيٍّ ومُباشرٍ، أرعبت الإسرائيليين، الذين باتوا يثقون بنصر الله أكثر بكثير من قياداتهم.

المصدر: رأي اليوم