لم يَدُر في خلد حسن تيسير -اسم وهمي- أن يتحول طلب استكمال علاجه المستعصي لـ"عملية ابتزاز" أشبه بـ"فيلم درامي"، تدور أحداثه على حاجز بيت حانون/ إيرز شمال قطاع غزة، في 9ساعات تفصل بين الحياة والموت.

دنت عقارب الساعة من الثامنة صباحًا، حين ناده ضابط صهيوني (41عامًا) بلباس مدني: "خبيبي.. تعال"، فما لبث أن باغته بالاعتداء على رجولته يتحسسها بيديه، بعد أجبره على خلع ملابسه، نزل الامر على حسن كالصاعقة مما جعله يصرخ متسائلًا عما يفعل الضابط ليرد: "نبحث عن سلاح".

لم تنته فصول حكاية حسن من مدينة غزة والذي ينوي العلاج في الداخل المحتل، بل أخُضع لخمس ساعات انتظار، وجولة طويلة بممرات مهجورة وضيقة أسفل الحاجز، ثم أعُيد لغرفة التحقيق، طلب منه الضابط الجلوس على كرسي صغير وبدأ يعرض على حسن معلومات عن أقاربه ويعرض خرائط وصور لغرباء.

يقول حسن: "ساوموني على علاجي مقابل معلومات فرفضت، لقد كانت التجربة الأكثر سوداوية، ونجوت من فكي كماشة الشاباك الذي يساوم المرضى على التخابر معه أو الموت بالمنع من العلاج، ولن يكون ذلك".

حكاية "أبو جهاد"

محمد(47عامًا) لم يكن حاله أفضل من حسن، الذي دفعته آلام إصابته بشظايا قصف صهيوني في خانيونس، لاستكمال العلاج فقدم طلبًا وانتظر، لكنّ موعد إجرائه عملية جراحية بمشفى المقاصد بمدينة القدس المحتلة مضى دون ردّ.

لم يمض وقت طويل، حتى رّن هاتفه ليخبره أحدهم باستدعائه لمقابلة، فيقول لحاجتي للعلاج اضطررت للذهاب فوصلت في اليوم التالي مبكرًا، وبعد انتظار لساعتين أدخلوني للقاء مع ثلاثة أشخاص بالشاباك بلباس مدني" وذلك بعد اجرائهم الفحص الأمني.

ملأ الصمت الغرفة، حتى بادرني الضابط "أبو جهاد" –مستعار- وهو يجلس خلف طاولة بالسؤال عن مشكلتي، فمددتُ رجليّ الاثنتيْن ليرى أنّ واحدة أقصر من الثانية، بعدها طلب عنواني وأن أريه بيتي على خارطة جغرافية بالحاسوب، ثم تابع بالسؤال: هل لي أصدقاء أو أعرف عناصرًا بحماس، وأماكن لإطلاق وتخزين الصواريخ فأجبته بالنفي.

بعدها نقلوني لغرفة أخرى_يقول محمد_: "جلست وحيدًا لساعة ثم أعادوني ثانية، سألني أبو جهاد إذا كنت فكرت بالعرض فأجبته بالرفض، بعدها أخرجوني وعدتُ لغزة ولم يسمح لي حتى اللحظة بالعلاج.

حيلة الإغراء

وفي زمن ليس ببعيد، مكثت "أم إبراهيم" التي تعاني من سرطان الكبد، تنتظر لخمس ساعات شاردة الذهن وهي تقلب ذاكرتها بصالة الانتظار، قبل إدخالها لغرفة التحقيق، ليرحب بها ضابط الشاباك ومن ثم سألها عن تفاصيلها ووضعها المادي.

تقول: "سكت قليلًا ثم سألني عن الوضع الاقتصادي بغزة، وعن أنفاق المقاومة ومن ثم عرض عليّ منحي هاتف وشريحة أورانج، للاتصال به حال رؤيتي لصواريخ أو عناصر في المقاومة، فرفضت بشدة".

الأربعيني أمجد

"شو رأيك نطلع برة (الخارج) ونتغذى سوا (معًا)"، فرفضت، هكذا ردّ "أمجد" على المحقق الذي عرض طلبه هذا ثلاث مرات، وفي كل مرة يرفض فيها امجد ينهال عليه بكلمات بذيئة وسباب وشتائم، ثم أحضر له كوب شاي وصحن مكسرات.

يتابع الأربعيني "أمجد" بلكنة غلب عليها الألم قائلا: سألني المحقق بلهجة عربية خالصة "أقنعني أنك لا تعمل مع حماس"، فأجبته أن لا علاقة لي بالتنظيمات، ثم ساومني وهددني صراحة أن علاجي مرهون بمعلومات أقدمها له، وعرض عليّ ذلك ست مرات، وكنت أكرر الرفض".

يشار إلى أن موقع "المجد الامني" يتحفظ على العديد من الروايات ومحاولات الابتزاز والمساومات، لكنه لم ينشر سوى بعض الحالات التي سمح بنشرها، وحصل عليها من مصادره الأمنية الموثوقة، أو من المرضى أنفسهم الذين تعرضوا لتلك الحوادث.

ما هو معبر ايريز.

حاجز "ايرز" ممر إجباري للراغبين بالسفر من غزة للداخل المحتل، ويسمح فقط للحالات التي يسميها الاحتلال الصهيوني بـ "الحالات الإنسانية"، وبتصريح مسبق بالمرور عبره، ويستدعى الكثير منهم لمقابلات أمنية، بحسب منظمة "بتسليم" الصهيونية.

ولاحظ مُعدّ التحقيق أن عمليّة الحصول على التصريح شاقة، إذ تستغرق ما بين 7-10 أيام ويُطلب من المرضى تحويلة طبية تقدّم للشؤون المدنية بغزة، ليحددوا موعدًا بالمشفى المختص ويقدّموا طلبًا للاحتلال لمنحه تصريح دخول لهم ولمرافقيهم.

أساليب الايقاع

العمل الاستخباراتي على "ايرز" لم يعد كالسابق، فالمقابلة اليوم محط اهتمام دوائر متعددة، خاصة المتعلقة بجمع المعلومات، وتفرد لها أهمية بالغة، كما يقول الخبير الأمني محمد أبو هربيد.

وترى الأجهزة الأمنية الصهيونية_وفق أبوهربيد_ في المواطن الفلسطيني أرشيفًا قد يستفاد منه بأي معلومة، فيما ترتبط وتيرة عملها بحاجتها للمعلومات بالوقت وطبيعة من ستقابل ونشاط ضباط المخابرات.

وللإيقاع بالمريض تستخدم أساليب عدة، منها تقاسم المصلحة (الوشاية مقابل العلاج)، والإرهاب والتهديد بالإرجاع، والحرب النفسية، مبينًا أن غالبية من سمح له بالمرور تعرض للتحقيق.

ويتابع بالقول: "كان العدو الصهيوني في السابق يستخدم غرفة او اثنتين للتحقيق، لكن الاهتمام تطور، فاليوم العدد أكبر بكثير وبات المعبر محطة استخباراتية، والشاباك يدرس شخصية المواطن الهدف ويعد له ملفًا قبل أن يجلس معه ويحاوره بهدوء ولطف وليس مساومة".

وبين أن المخابرات الصهيونية تهدف من وراء الحاجز جمع معلومات من العابرين، وعرض التجنيد عليهم مقابل تسهيلات واستغلال الحالة المرضية للبعض، واستخدام "صدمة المعلومات".

ويطالب الخبير الأمني بالحذر من محقق الشاباك الذي يحاور بمكر لاصطياد المعلومة، مؤكدًا أن كثافة التحقيقات تشير لضعف عمل العملاء وفقرهم للمعلومات، وأنه لولا زيادة الوعي الأمني لدى المواطن الغزي، لقضى الاحتلال على المقاومة منذ زمن.

رفض بالجملة

مصدر في دائرة العلاج بالخارج يشير إلى أن دائرته تصدر 1500 تحويلة طبية شهريًا لمرضى بحاجة للعلاج بمشافي الضفة الغربية والقدس المحتلتين، فيما تخطت نسبة الرفض 55%.

وبين أن رد المخابرات يتراوح ما بين الموافقة أو تحت الفحص أو الرفض أو عدم الرد، مشيرًا إلى أن بعض المرضى يحصلون على الرفض لثلاثة وأربعة مرات، وغالبًا لا خلفيات أمنية على المريض.

وخلال البحث تبين أن الست سنوات الماضية، طلبت خلالها المخابرات مقابلة 2304مسافراً، بمعدل شهري 384حالة، وقامت باعتقال خمسين مواطناً ما بين مريض أو مرافق مريض، وارتفاع في نسبة رفض الطلبات لـ60%، وتوسيع فئة الفحص العمرية لـ(16- 55) عامًا.

منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان الصهيونية، تقول إن عمليات ابتزاز الفلسطينيين ظاهرة قديمة وواسعة، وتمارس بشكل منهجي منذ بدء فرض الحصارات وسياسة التحرك بتصاريح عام 1991.

وشهد عام 2015 أول اعتراف رسمي سُرب على لسان ممثل الحكومة الصهيونية ليئور لوتان، خلال لقائه عائلة الصهيوني المتواجد بغزة "أبراهام منغستو" قوله إن "إسرائيل تستدعي مواطنين من غزة لجلب معلومات منهم عن الجنود الأسرى في غزة".

مسؤول قسم الأراضي المحتلة في المنظمة محمود أبو عريشة، يبين أنه يطلب من المريض التوجه لمكتب المخابرات بعد تحديد موعد له صباحًا، فينتظر حتى المساء قبل تسريحه بحجة الانشغال، وطلب عودته غدًا بعد استنزاف حالته النفسية لتبدأ الضغوط والابتزاز.

ويذكر أن منظمته وثقت عديد الحالات التي تم ابتزازها، أنها تلقت أسئلة عن السكن أو عن عروض عسكرية أو أشخاص ينتمون لتنظيمات فلسطينية، وطلب معلومات منهم كشرط للعلاج وحال الرفض يُعاد لغزة على مبدأ: "ساعد إسرائيل بنساعدك".

ويشير إلى رصدهم ثلاث حالات تم التحقيق فيها مع مرضى داخل سيارات الإسعاف التي تقلهم للداخل المحتل، عدا عن تركهم لساعات بغرف تحقيق وإلقاء الدواء على الأرض والتفتيش المذل، مبينًا أن المخابرات الصهيونية تعزو غالب حالات الإرجاع لأسباب أمنية خاصة بالاحتلال.

ووفق أبو عريشة فإن المخابرات درجت مؤخرًا على إرجاع المرضى ممن لا يحملون هواتف ذكية بعد توقيف لساعات لمساعدتها بجلب المعلومات، مبينًا أن أساليب الانتهاكات لا تتغير بل يضيف "الشاباك" في كل عام أمرًا جديدًا.

مصيدة للمرضى

مسؤول وحدة الرصد الميداني بمركز الميزان لحقوق الإنسان يامن المدهون يقول: إن الحاجز بات مصيدة للمرضى، فبعد منح الاحتلال للمريض تصريحًا للمرور، غالبًا ما يستدعيه لمقابلة ويُخضعه لمساومة مقابل العلاج أو الاعتقال أو الارجاع.

ويوضح أن الانتهاكات الصهيونية والتي تتمثل بصعوبة الحصول على التصاريح، وعرقلة الوصول أو الابتزاز والاعتقال ومنع مرافقيهم، تتزايد بوتيرة غير مسبوقة مع اللعب على وتر الحالة لجلب المعلومات، مؤكدًا أنه لا يوجد معيار لأغلب حالات رفض العلاج.

وتكمن الخطورة -وفق المدهون- في لجوء المخابرات لابتزاز المريض، بعد السماح له بأخذ جرعات علاج ثم مساومته، مبينًا أن عديد المرضى يخشون تدوين افاداتهم خشية منعهم من السفر لاحقًا.

ويبين أن الاحتلال يمعن بانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، ويظهر ذلك في مدى تحلله من التزامه بقواعد القانون الدولي، مبينًا نجاحهم بتسهيل مرور حالات بعد تقديم التماسات لدى الاحتلال.

قرصنة حقيقية

الناطق باسم وزارة الصحة بغزة أشرف القدرة، يكشف أن 60% ممن يحصلون على تحويلات مرضية، يجرى رفضها تحت تبريرات ووقائع واهية، مؤكدًا أن ما يحدث قرصنة حقيقية يجب وقفها.

ويلفت القدرة إلى إن وزارته عمدت مؤخرًا على تأمين سفر حالات مستعصية من تلك الحالات عبر معبر رفح، لإبعادهم عن شبح ممارسات المخابرات، والتي كان آخرها استدعاء 230 مريضًا لمقابلات أمنية بفترة وجيزة.

ويشير إلى وزارته تنظر لتلك الانتهاكات ببالغ الخطورة، مما يفاقم أوضاع المرضى، داعيًا إلى تشكيل جهد قانوني ممنهج للعمل دوليًا على إجبار الاحتلال على وقفها.

وسام فخر

أستاذ علم النفس بغزة درداح الشاعر، يوضح أن المخابرات تلجأ لأساليب نفسية عدة مع المريض، أملًا بانهياره أمامها لابتزازه واصطياد معلومات، ما يلحق أضرارًا نفسية وجسدية عليه فوق معاناته.

ويقول الشاعر إن تلك المحاولات تضع المريض أمام ناري المرض الجسدي أو الشعور النفسي، كون ما يطلب منه أكثر بكثير مما يستطيع، فيتسلل التوتر والقلق إلى قلبه لكن وسام الفخر الذي يتمتع به رافض التخابر كفيل بإزاحتها.

ويطالب من تعرض للابتزاز أو رفض تحويلته للاحتساب عند الله، وألا ينصاع أو يخضع، فلا يبيع دينه ووطنه، ولا يخشى التهديد أو يسمح للخوف بالتسلل له، داعيًا لمساعدتهم وتقديم الدعم النفسي لهم.

 المصدر : المجد الأمني