مكابر وغير منصف من يعتقد أنه يستطيع أن يتجاوز ياسر عرفات كعلامة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني، وكتجربة في تاريخ النضال، لها ما لها، وعليها الكثير.
فهذا الرجل، مثير في كل تفاصيل حياته، ولن يخرج أي باحث موضوعي في تاريخه خلياً من مشاعر الاحترام تارة، والاختلاف والنقد الحاد تارة أخرى.
نبأ برس، بحثت عن أقرب الحلقات قرباً من شخصية "أبو عمار" فكان، فريح أبو مدين، رفيق "الختيار" وصندوق أسراره المغلق، طالبناه بحوار صريح قدرما يستطيع إلى الصراحة من سبيل، فكان لنا ما أردناه.
أبو عمار القائد الثوري، والمفاوض السياسي، والأب الشعبي، ثم المحاصر والشهيد، وتفاصيل أخرى عن أوسلو ومدريد والانتفاضة الأولى والثانية، كانت أبرز المحطات التي توقفنا فيها مع وزير العدل السابق.
وإليكم المقابلة كاملة
- أي الألقاب تليق بشخصية أبو عمار، هل يمكن أن نقول أنه سياسي؟ أم مناضل؟ أم زعيم ؟
* ابو عمار من الثوار الذين يأتون كل 300 عامٍ مرة ، حيث أن حقيقة أبو عمار تكمن بأنه زعيم تعاطى مع كل الظروف التي أُحيطت به، لأنه انطلق كثائر ووصل إلى الزعامة بإنشاء تنظيم تحرر وطني في الأول من يناير عام 1965، حيث بدأ مع إخوانه كثوار في تنظيم فتح، وقتها كانت الأمة العربية متماسكة والضفة الغربية وغزة متوحدتان، بالإضافة إلى تواجد الرئيس جمال عبد الناصر على الساحة، أبو عمار جاء بفترة كان فيها المد التحرري كبيراً، وكانت مراكز العرب في دمشق وبغداد والقاهرة، فبداية أبو عمار جاءت في تلك الظروف، إلى أن أصبح رئيساً، مُكرساً نفسه للقضية الفلسطينية، أما بعد هزيمة يونيو1967، وبالذات بعد معركة الكرامة أخذ أبو عمار موقع الزعامة، الذي قرر فيه أن يقف ويقاتل، وتعتبر الولادة الحقيقة لأبو عمار بذلك القرار، حيث أن عام 65،66،67 كان تنظيم فتح ليس أكبر من شعارات، وحدثت عملية واحدة خلال تلك السنوات من سوريا ولم يحدث غيرها .
وأصبح أبو عمار رئيسا لأنه كان يمتلك رؤية وجمع الشعب حوله، بعد أن كانوا مشتتين ومن ثم انطلقت حركته بقيادته سواءً بمعسكرات الشتات في لبنان أو الأردن أو في مصر وغزة.
- التاريخ الذي تركه أبو عمار قبل رحيله يقدم شخصية قائد يمتشق سلاحه، ما هي المنعطفات التي أوصلته إلى طريق المفاوضات؟
* في حقيقة الأمر، جاءت طاولة المفاوضات في أسوأ لحظات الأمة العربية ،بدءا من زلزال الخليج، سقوط بغداد والعراق، وصولا الى اختفاء عبد الناصر عن الساحة وكل القادة التاريخين الذين كانوا يتحالفون مع أبو عمار، بالإضافة إلى خلافه مع سوريا ، وقبل كل ذلك، لا يمكن أن نتجاهل حرب لبنان عام 1982 وما خلفته من دمار، وكيف جلس العرب أجمع 90 يوما ينظرون إلينا كما حدث في الحروب الثلاث الماضية، الى أن أُجلي من لبنان وتشتت قواه في ليبيا واليمن والجزائر، ذلك وضع أبو عمار في معادلة سياسية مختلفة تماما وأضعف مما كان في بيروت الذي كانت كل الانظمة العربية تعمل له حساب ولك بعد حرب لبنان بدأ نفوذه العربي يتقلص تحديدا بعد أن تشتت بعدة دول، لكن ابو عمار مثل طائر الفينيق هو وحركته حيث بدأ يعيد نفسه ويرتب أموره وما أنقذ موقف ياسر عرفات انطلاق الانتفاضة الكبرى من قطاع غزة ، وفي جلسات عدة معه كان دائما يقول لي الشعب هو القائد الذي بدأ انتفاضة لا يقودها أحد ، ومن ثم لحقوا بها التنظيمات، وأصبحنا نقول انتفاضة الحجارة ، ذلك ما عوٌم القضية الفلسطينية على السطح مرة أخرى ، كما أن أبو عمار كان لديه هاجس الانتفاضة كل يوم، ما بين اثنين الى ثلاث اتصالات للحديث عن الانتفاضة فقط، فهي من أظهرت القضية مرة أخرى بعد حرب لبنان.
يوم 1 اغسطس عندما احتل الرئيس الراحل صدام حسين الكويت انسحب الاعلام والضوء من ساحاتنا سواء في الضفة أو غزة، واتجه الى الكويت، وجميعنا قلقنا، ولكن كان ابو عمار أكثرنا قلقا من أن ما حدث سيكون له تأثير سلبي على القضية الفلسطينية، وفعلا ذلك ما حدث منذ حرب الخليج الأولى، ومن ثم بعد سقوط العراق، ابو عمار بدأ الضغط عليه بتجفيف عروقه ومصادره؛ فلم يستطع أن يدفع رواتب ولا أن يغطي اللاجئين بلبنان وبغزة والضفة ، فكان محاصراً حصاراً شديداً، الأمريكان قادوها مع العرب ضده، معتقدين أننا وقفنا مع صدام في حربه على الكويت، وذلك ليس صحيحا، فقد حاول جهده بأن لا تحدث حرباً، لأنه كان مدركا بحسه السياسي أن ذلك هو الجحيم للأمة العربية، وسمعناها على لسانه، فاتخذ موقفا ثابتا في الجامعة العربية وتحدث الى الرئيس صدام وأقنعه واقترب من حل الموضوع، لكنهم أرادو تدمير العراق كقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية، وكان أبو عمار مدرك ذلك، لأنه بعد ضياع العراق نحن من دفعنا الثمن؛ حيث تم حصار أبو عمار، وتم ترحيل نصف مليون فلسطيني من الكويت، مما أدى الى شتاتهم ، فكان أبو عمار كلما تذكر تلك الأحداث يتألم، ويشعر أنه على خط التماس، هناك مليون فلسطيني لا يجدون مكانا يأويهم، فأصبح الأمر مُلح عليه يريد جغرافية سياسية، وبدأت الحوارات من جديد؛ لأن أمريكا شعرت أن الورقة الفلسطينية مهمة جدا، وهو ما تحاول السعودية الآن الحفاظ عليه مع أبو مازن حيث أن التاريخ يُعيد نفسه.
كان معروف أنه من طباع أبو عمار إذا جاء وقت الغذاء والعشاء، دخل كل من في الخارج ليتناولون معه الطعام، لكن مرت على أبو عمار مدة، لا يجد أحد يتغدى أو يتعشى معه، فقد كان في عزلة بسبب حزنه على شعبه، الذين كانوا دائما يتناوبون على مكتبه من أصحاب الحاجات، بالإضافة الى قلة الرواتب، وهو غير قادر على تلبية متطلباتهم فأصبح بالزاوية.
بدأ الأمريكان يريدون عمل شكل من التعويض للعالم العربي عن طريق التحرك من أجل القضية الفلسطينية، لكن القرار كان لأبو عمار قبل تشكيل الفريق الذي كنت أنا فيه مع الدكتور حيدر عبد الشافي، فبدأ أبو عمار يشعر من جديد أننا يجب أن نعود الى الجغرافية السياسية عن طريق التفاوض بمدريد ومن ثم واشنطن وتم تشكيل الفريق .
كانت البداية صعبة جداً، حيث كنا تحت مظلة الأردنيين، الجانب الاسرائيلي كان يلعب لعبة تضيع الوقت والتسويف، وكنا نحن نشكل برنامج ذلك الوفد المنطلق وكان أبو عمار معنا على خط التماس يوميا، يتحدث إلى كل شخص فينا ويناقشه، فكان أساس الحديث بدءا بالاستيطان الذي هو نقطة حديثنا حتى اليوم، فإذا تم ايقاف الاستيطان؛ تستمر الجهود بالتفاوض، وهنا مرت سنتين من غير نتيجة، قام أبو عمار بتغيير خط سيره لـ أوسلو والتي أتحفظ عليها حتى اليوم، فأنا من منشئين ومؤسسيين السلطة، ومع ذلك كان لي تحفظ، وبدأ تحرك النرويجيين وفتحوا خطوط مع أبو عمار، لكن في محصلة الأمر كان أبو مازن وأبو علاء قريع هم من يقودون التحرك في اتفاقية أوسلو.
- تعد اتفاقية أوسلو إحدى أكبر الأحداث في تاريخ الرجل، بحكم قربك من أبو عمار؟ هل لك أن تصف لنا واقعه النفسي وردة فعله قبل وبعد أوسلو ؟
* لم يكن لوفد مدريد برئاسة حيدر عبد الشافي أي تقارب حقيقي مع إسرائيل، فلجأوا إلى قناة خلفية، نحن لم نكن نعلم عنها شئ، كانت تلك القناة بقيادة أبو علاء قريع وأبو مازن، فيما بعد عرفنا التفاصيل، لم يتم تبلغينا من البداية، حدث حينها خللاً كبيراً باتفاقية أوسلو، وهو الإقرار بأن المنظمة هي الممثلة الوحيدة للشعب الفلسطيني، ونحن ما نريده هو اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وهنا الخلل والخطأ الجسيم الذي تم ارتكابه بأوسلو ، كما أن أبو عمار كان بعيداً عن التفاوض، لا أعلم كيف تم تسويق أوسلو له ، فيما بعد جلسنا نسأله متفاجئين من تلك الاتفاقية، بالإضافة إلى أن هناك مستشارين من مصر للوفد الفلسطيني، على رأسهم طاهر شاش الذي أكد أنه لم يرَ تلك الاتفاقية "أوسلو" ولم يقرأها، وذهب هناك وكان قد تم التوقيع !!
خطر أوسلو أنها لم تستطيع أن تُنتج شيء، أنها لم تتحدث عن حقوق الشعب الفلسطيني، فالمركزية فيها أن منظمة التحرير الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني، بتقديري أن ذلك الخطأ.
أبو عمار كل ما كان يشغله وقتها أنه كان يريد أن يظهر على سطح الحقل السياسي، الأمر الذي جعله يقبل بتلك المعادلة، ظنا منه أنه يستطيع أن يحدث اختراق من واقع تلك الاتفاقية، بعد ذلك بدأت أوسلو التي وُقعت من قبل أبو مازن في واشنطن بتاريخ 13 سبتمبر، ومن ثم قمنا بعمل احتفالات كبيرة وأمال وأوهام كبيرة .
أما من ناحية نفسية أبو عمار فقد كان سعيداً، يريد الوصول سريعا إلى غزة، هناك ما يقارب ال400ألف فلسطيني قادمين معه من الشتات وكل ذلك إيمانا منه بأنه قادر على عمل شيء في وقت لاحق.
- بصراحة ؟ هل آمن أبو عمار بأن إسرائيل يمكن أن تعطيه شيئاً ؟
* أبو عمار كان يعلم جيدا أن اسرائيل لن تعطيه شيئاً، وأنها ستضع له كافة المشاكل، ولكن كان مقتنع أن هناك أمل، إلى أن اغتيل اسحاق رابين، فالأداء لم يكن على مستوى المسؤولية.
كما أن التاريخ يعيد نفسه، حيث أن وجود حماس المضادة لأوسلو وكل العمليات التفجيرية كانت عائق لأبو عمار الذي حاول مراراً وتكراراً التفاهم مع الشيخ أحمد ياسين، ولكن لم يكن هناك إلتقاء بينهما؛ فلم تكن الأمور متماشية مع التيارات الفلسطينية الأخرى، الأمر الوحيد الذي كان يراهن عليه أبو عمار هو اسحاق رابين ، وعندما أغتيل رابين، حدث تحول كبير في نظرة أبو عمار لأوسلو.
الليلة التي أُطلق فيها النار على رابين، أنا علمت من مصدر صحفي اسرائيلي مهم يدعى "رومي شاكيد" حدثني وقال لي أنهم ممنوعين من الحديث عن اغتيال رابين، ولكن أريد منك طلبا: بلغ ياسر عرفات بالذي حدث، وما أريده هو معرفة ردة فعله.
ذهبت إلى أبو عمار وجدته لأول مرة يشاهد التلفزيون _ أبو عمار_ لا يشاهد التلفاز أبدا ولا يعرفه_ وكان قلقا فقلت له: بعد اذنك يا أبو عمار بدي أشوفك ثانيه واحدة
قلت له: رابين مات
قلي: "إيه"
قلت له: الخبر أكيد
وقتها وقف أبو عمار مذهولا وقال لي كلمة واحدة: "خلص الفيلم "
كان أبو عمار يعلم أن الوحيد الذي آمن بلحظة تاريخية تنهي ذلك الصراع هو رابين، وتم اغتياله، وتلك نقطة التحول الأولى في أوسلو، أما الثانية، فهي آخر مباحثات في أمريكا مع الرئيس كلينتون، محورها أن تبقى العملية سلمية أو لا تبقى، أي أن تبقى أوسلو أو لا.
فما حدث أن أبو عمار ذهب إلى أمريكا مضطراً أكثر مما مضى، وكان يقول لنا أنه لا يوجد شيء عند ايهود براك؛ لأنه ببساطة ليس اسحاق رابين " وكدة حتكون سلق بيض" ذهب ومعه طاقمه.
ودار النقاش، فالصدام كان على مفاصل القضية الفلسطينية القدس، الاستيطان، اللاجئين التي لا يمكن أن يكون فيها اختراق .. كثير من الناس تسآلت، هل أبو عمار أضاع فرصة بكامب ديفيد مع كلينتون أم لا، وأنا أجيب بـ: لا لم يضيع الفرصة، وأبو عمار لم يحسم قضية القدس، كما أن كافة القادة العرب أقفلوا هواتفهم ولم يرد عليه أحد، لا ملك ولا رئيس، خصوصاً في قضية القدس، فشعر أنه وحيدا هناك مع فريقه الذي كان معظمه غير مؤمن بما يقوله أبو عمار، ولكن أولا وأخيراً هو صاحب القرار، وما حدث أن كلينتون قال له هذا ما لدينا "TAKE IT OR LEAVE IT"، كاملا غير قابل للتجزئة، فكان رد أبو عمار عليه: "إذا قبلت فما عليك وقتها سوى حضور جنازتي"، بعد كل ذلك، لا يمكن أن أقبل بذلك الاتفاق؛ لأنه لن يقود إلى شيء، كما أن باراك كان رافضا الجلوس مع ابو عمار، وجها لوجه ، فباختصار قضية القدس والضفة الغربية لم يكن فيهما مجال للنقاش من وقتها أصبح هناك تغير في تفكيره ومن ثم انطلقت الانتفاضة الثانية .
- برأيك، هل كانت الانتفاضة عام 2000 ردة فعل على فشل طريق المفاوضات ؟
* نعم انتفاضة عام 2000 كانت ردة فعل على فشل المفاوضات، عاد أبو عمار دون الوصول الى اتفاق، وكان مملوءً بهاجس مقاومة حزب الله التي هزمت اسرائيل، فقرر أن يسعى إلى النضال وغير خط سيره تماماً، وكان تقديره أن مقتل يهودي واحد منهم، مقابل خمسة فلسطينيين منا يستشهدوا، فنحن الرابحين ، كان قابل بتلك المعادلة، ولم يكن يصرح بها لأي أحد، فتقديراته كانت: إذا أوقعنا إصابات من اليهود وقتلنا منهم يمكن أن تتراخى إسرائيل، ولكن هنا جاءت النتيجة عكسية، فقد احتلت اسرائيل الضفة وقتها، وتم أخذها منا، ومن ثم حاصروا أبو عمار إلى أن قتلوه ، كانت نتيجتها الانتفاضة الثانية قوية لأنها كانت مسلحة منذ البداية وليس كالانتفاضة الأولى .
- ما هو دور أبو عمار بها ؟
*بدأ أبو عمار في الانتفاضة الثانية التي كان يحذر منها أبو مازن بقوله أنها ستقودنا إلى الضياع ، نحن كنا مرتبكين ليس لدينا قرار واضح، ولكن أبو عمار كان قراره واضحا بقوله "نحن لها" كان يريد أن يمسح ما مضى ويبدأ من جديد.
أبو عمار دوره كان جليا حيث دعم الانتفاضة بالسلاح والمال، ماديا ومعنويا، كما أنه تحالف مع حركة حماس بتلك اللحظة، وأصبح يساعدها بالمقاومة، حماس اشتغلت على ذلك الموضوع لأجندتها، وليس لأجندته، فبدأ بالانتفاضة ومن ثم تم حصاره إلى أن قتلوه.
- أبو عمار كان قريباً من شعبه ؟ لو تذكر لنا بعض المواقف التي شهدتها بعينك ؟
* أبو عمار شعبي بطريقته، قصصه كثيره، منها المحزن ومنها الطريف، ولكن هناك قصة أذكرها دائما،
أول من حمل بندقية بعد 5 يوينو، كان عبد القادر أبو الفحم وزياد الحسيني، وكانوا بقوات التحرير الشعبية، كانت زوجة أبو الفحم وضعها صعب جداً لدرجة أنها كانت تجمع الحطب من تحت الشجر، فلما علم أبو عمار بذلك، بكى كثيراً، أذكر ذلك جيدا، وكان متعارف عليه أن دمعته من قلبه، كان كثير القلق على المعسكرات خصوصا معسكرات اللاجئين بلبنان.
أما من المواقف الطريفة عندما كان في طابا، كان التفاوض ع استلام الضفة الغربية وكانت المفاوضات صعبة جدا الأمر الذي اضطره الى أن يذهب بنفسه أخر مرة، بعد أن كان متوليها أبو علاء قريع لمدة 6 شهور، شيمعون بيريز كان هناك مع طاقم اسرائيلي كبير، كان بيريز لئيما وخبيثا، فما حدث يومها، أنّا كنا جميعا جالسين على طاولة المفاوضات، فجأة دخل علينا جنرال بالجيش الاسرائيلي يدعى "عوزي ديان" وكان حاملا بيده "جلاسير" يضم مجموعة أوراق، ودخل وبدأ يتحدث بصدام مع بيريز، ومن ثم مسك تلك الأوراق وقام بحذفها على بيريز.
نحن تفاجأنا بقيام أبو عمار بمنتهى العصبية قائلا: " دي قلة أدب ي جنرال، انت قليل أدب، إنت بمقري "، هناك من همس له بأن يتحدث باللغة الإنجليزية، فقال أبو عمار:" كلو هنا بيعرف عربي، إنت قليل أدب "، الجميع ذُهل وقتها ومن بينهم بيريز، وجميعم خرجوا وقتها من المكتب، وبعد خروجهم بثواني أُغمي عليه من الضحك.
بعد خروجهم بعشرة دقائق رجع بيريز ليقول، سيدي الرئيس، وللتوضيح يقولون بالعربي سيدي الرئيس، اما باللغة الانجليزية من المستحيل أن يقولوا PRESEDANT كان لديهم تحفظ كبير عليها.
ما حدث أن بيريز عاد وقال لأبو عمار: "سيدي الرئيس أنا متأسف لما حدث؛ ولكن هؤلاء نحن قمنا بتربيتهم بالجيش تاريخيا، عندما أخذناهم كانت أعمارهم لا تتجاوز الـ 18 عاماً، إلى أن أصبح جنرال، الخط العريض الذي كنا نشير إليه دائما، أن من البحر إلى النهر فلسطين اسمها إسرائيل وهي لنا، ونحن نقول لهم أن الفلسطينيين سيكون لهم وجود بالضفة والقدس، فأتى هو غاضبا بسبب التربية التي أربيناهم عليها، وهنا كانت ردة فعل أبو عمار بأن نظر إلى إلينا وقال "سامعين سامعين "
كان لديه الكثير من القصص كان لطيفا وطريفا كإنسان .
أذكر أيضا موقفا حدث معي شخصيا، اختلفنا على موضوع معين (..) وقمت بتقديم استقالتي لأتيح له الفرصة ليفعل ما يريد، طبعا هو لم يقبلها، بعد اسبوعين رأيته يقف أمام شرفتي بمنزلي قائلا لي: "إييه ما أقسى قلبك ي فريح تعالا "، قلت له أنا بجيك يا أبو عمار ولو .. إنت بتمون"، قال لي: " لا أنا جاي أشرب قهوة عندك" فتلك من المواقف التي لا يمكن أن أنساها كان إنسان متواضع طيب.
- لو كان أبو عمار ما زال بيننا هل كان للانقسام أن يحدث؟
* أبو عمار عرض على حماس الدخول الى المجلس التشريعي وإجراء الانتخابات ورفضوا، في بظل وجود أبو عمار كان من الصعب حدوث الانقسام ، أما بظل أبو مازن استسهلوا الأمر قليلا، فقد كان أبو مازن مخلص بقضية الانتخابات معهم، قال لهم: ذهبت الى أمريكا ويريدون أن نجري الانتخابات وأن تكونوا معانا بمجلس الوزراء والتشريعي، وهنا استبشر خير أبو مازن أنه في حال دخول حماس الانتخابات أن نحيي جميعا العملية السلمية، دخلت حماس الانتخابات، وكانت هنا قوة مضادة لها، بالذات محمد دحلان وفرقته الذين خلقوا فراغ أمني كبير وفوضى، وشُكلت الوزارة، وكان أبو مازن قوي ودافع خلف اسماعيل هنية كرئيس وزراء، عندما حدثت الفوضى، قررت حماس شطب كل من يقف في طريقها وأولهم محمد دحلان وجماعته، وتوالت فيما بعد الأحداث ، وهدف حماس الاساسي الآن هو اجراء الانتخابات .
وبرأيي لو كان أبو عمار على قيد الحياة، لتحالف الآن مع يحيى السنوار، على وجه الخصوص، ولو كان حيا لما وصلت الأمور إلى حد الانقسام .
تحدث لنا على لحظات قوة عاشها أبو عمار ولحظات ضعف؟
هناك الكثير من لحظات القوة التي يسجلها التاريخ لأبو عمار، أذكر أنه عندما حاول أن يقدم خدمة للكويتين بقضية الأسرى، فوجئنا يوماً أن الكويتيين يريدون أحداً من المنظمة للحديث معه، ذهبت أنا وجلست لأعرف مطالبهم، كانوا يريدون معرفة مصير 620 أسير كويتي أخذتهم القوات العراقية، وعملنا المستحيل، ودفعنا الكثير من الأموال لمعرفة مصيرهم، ولم نحصل على أي معلومة، وبصراحة أكثر، لن يستطيع أحد معرفة مصيرهم سوى أبو عمار بعلاقته مع صدام حسين، طلبنا من أبو عمار أن يأتنا بالخبر اليقين، ذهبت وتحدثت إلى أبو عمار وقال لي بالحرف الواحد: " هو صدام بخلي حد يخويا"
ومع ذلك اتركني لأعلم الصحيح وأخبرك، وكان البعد الإنساني عنده كبير، مر ما يقارب الشهر ونصف، جاء أبو عمار وقال لي: " الكلام اللي حقولهولك من صدام حسين مباشرة، بلغ الكويتين انو ما ضل ولا واحد طيب "
له الكثير من القصص مع العرب، فأنا لم أر أحدا بائسا ومستاءً وحزينا جدا أكثر من أبو عمار، عندما منع من القاء كلمة فلسطين وهو محاصر، كان يوم بؤس حقيقي، لدرجة أننا قمنا باستفزازه بإحضار تلفزيون الجزيرة عنده، وأن يقوم ببث كلمته مباشرة، لكنه رفض وقال: " يجب أن ألقيها هناك" وقال كلمة لا يمكن أن أنساها : " انتوا ما بتعرفوش العرب، مفكرين صدام حسين بالعراق، وعبد الناصر بمصر، لأشد نفسي بيهم، اللي عاوز يتغدى معايا اهلا وسهلا واللي مش عاوز يتفضل يقوم " ؛ فالعرب لا يريدون أبو عمار، تحالفوا مع اسرائيل عليه، كان شخصا شاهداً على فضائحهم.
-أكثر الشخصيات التي كان يحبها الراحل أبو عمار؟
*الشخصيات السياسية العربية صدام حسين وجمال عبد الناصر وأحبهم لمواقف كثيرة جدا كان يقول عن عبد الناصر " ده اللي دخلني روسيا غصبن عن الروس "، وقدم حركة فتح للروس هو جمال عبد الناصر ، والوحيد الذي أقول له ما أريد ينفذه لي ولا يناقشني هو صدام حسين .
أما ممن حوله كان يحترم الدكتور حيدر عبد الشافي كثيرا أذكر ذات مرة عدد من حركة فتح قالوا له أن حيدر مش فتحاوي رد عليهم " نعم اللي عندو قامة أكبر من حيدر يبقى يقولي ي اخوانا، ده أنا مودي لمهمة من أصعب المهمات في مدريد"
أيضا من الشخصيات التي أحبها أبو عمار توفيق زياد رئيس بلدية الناصرة كنا سويا عندما جاء خبر وفاته ولم أرغب أن أخبره لأنه كان سعيدا برحلة قضيناها سويا ، ولكن بنفس الوقت خفت أن لا أخبره فيغضب كثيرا ذهبت إلى منزله قالوا لي أنه دخل للتو لينام وإذا رغبت أدخل أنت لتوقظه دخلت عليه وجدته جالسا يحيك بفانيلته الداخلية والابرة بيده ويحيكها نظر الي وقال لي بلهجته: " في ايه ي فريح توفيق مات"، اغرورقت عيناه بالدموع وشد بطانيته وغطى وجهه وقال لي : " كلكم على جنازته".، وأذكر جيدا أننا جميعنا كنا معتقدين أن توفيق زياد مسيحي ولكن من جنازته علمنا أنه مسلم وزوجته التي تعتنق المسيحية وما أردت ايصاله أن العرق الذي كان يجمعنها هو العرق الوطني فقط لا غير .
- أمنية كان يتمناها و لم تتحقق؟
* كان عنده هاجس يسمى القدس، سأحدثك بقصة قصيرة كنت شاهداً عليها.
رن جرس الهاتف ذات يوم و كنت أجلس عنده، رد أبو عمار، وفجأة قال: " معقولة معقولة معقولة "
قالو له رئيس الدبلوماسية التركي اسماعيل جيم قادم إلى غزة بعد ساعة ونصف، وكانت لأبو عمار علاقة جيدة مع تانسوتشيلر رئيسة وزراء تركية و سليمان دميرل رئيس الجمهورية.
قال لي أبو عمار: " يا خويا ده من غير ترتيب، في حاجة! روح البس بدلة واستقبلهم من في مطار رفح". ذهبت لكي احضرهم، و ركبنا في السيارة سوياً، بدأت اتجاذب معهم أطراف الحديث، لكنني وجدته مأزوماً وكأن شيئا يشغل باله، وكان طوال الطريق يسالني سؤالاً واحدا فقط ، متى سوف نصل الى الرئيس؟
أبو عمار كان فيه طبع مؤدب، كان يقف خارجا على الباب ليستقبل ضيوفه بنفسه.
وصلنا ودخلنا المكتب سويا، وبدأ أبو عمار يرحب به، ويتحدث عن سعادته بزيارته، فجأة قاطعه اسماعيل جيم وكان يحمل بيده ورقة مطوية، وقال له سيادة الرئيس أنا كنت مجتمعا مع رئيس الجمهورية دميرل ورئيسة وزراء تركية تشيلر وأريد أن أتحدث اليك على انفراد، فهممت أنا بالقيام، قال لي أبو عمار: اجلس، وقال لجيم: " ده فريح بساعدني باللغة الانجليزية".
ولكن حقيقة الأمر أن أبو عمار أراد شاهدا على ما سوف يدور من حديث، بعد ذلك، قام جيم بجوار أبو عمار وفتح الورقة التي بيده، ولم يفتحها كاملا، وكان أصلا عائداً من واشنطن، وقال لأبو عمار: "لقد حللنا مشكلة القدس ولدينا عرض جيد"، قال له أبو عمار: " تفضل" ، قال له: " نحن نريد قطعة أرض بالحوض المقدس من 600 الى 800 م، رد عليه أبو عمار: " ايه يعني بالزبط "، قال له جيم :" يعني يفتح بالأسبوع من 4 الى 5 ساعات فقط"، قال له أبو عمار معقبا:" يوم السبت؟" قال جيم : " نعم"، عاد أبو عمار ليقول : " كنيس يهودي " رد : " بنعم، ولكن ليس عليه علم يهودي ممكن أن نضع علم الأمم المتحدة ".
في ذلك الوقت صفن أبو عمار وأنا بقيت في مكاني أنتظر ردة، محتارا كيف سيرد على جيم؟ حيث أن لتركيا وزنها ، فقال أبو عمار: " والله ده حل، بس ده حل يسيد جيم مرتبط مش بس بالشعب الفلسطيني، إحنا رأس حربه فيه، ده مرتبط بمليار ونص مسلم، فأنا بقترح انك تنام عندي الليلة والصبح نطلع بالطيارة ونعرض الموضوع ده على الشعب التركي ونبدأ بالأتراك "
فعندما سمع جيم ابو عمار رد بتلك الطريقة، أصبح لون وجهه لا يرى من سواده وقال : " أبو عمار انسى تلك الورقة " فلنذهب الى العشاء، وذهب ليغسل يداه وقال لي أبو عمار: " شايف المغفل بيضحكوا عليه، جاي يضحك عليا ".
قال فريح أبو مدين تلك الجملة قبل أن يتكأ على أريكته، واضعاً يده على خده، ومبتسما ابتسامة ذكريات مختلطة، ما بين الأليمة والسعيدة والطريفة والقاسية وختم قائلاً : " أبو عمار شخص جسده التاريخ بجبروته وشخصه وزعماته التي لا ولن تتكرر رحم الله روحه الطاهرة ".
كن أول من يعلق
تعليق جديد