لا يقتصر الصراع مع الاحتلال منذ ما يقارب 70 عاماً على وطنٍ مسلوب وشعب شرِّد من أرضه غصباً فحسب، بل كان لهذا الصراع تبعات ستبقى وتزداد ما دام موجوداً، لأن تأثيره يمتد إلى مختلف الجوانب الحياتية الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وفي بعض هذه الجوانب لعب الاحتلال دوراً خفياً وناعماً، مخطط له بعناية شديدة.

أحد أشكال هذا التأثير هو بناء العلاقات الاجتماعية - زواج ومصاهرة-  بين الفلسطينيين واليهود أو فلسطيني العام 1948 الذين يحملون "الهوية الزرقاء"، وتزداد هذه العلاقات بين مناطق "أ" التي كانت خاضعة لسيطرة السلطة ومناطق "ج" الخاضعة لسيطرة الاحتلال بشكل كامل؛ كون هذه المناطق تشهد نشاطاً تجارياً متبادلاً.


ويقدم على بناء مثل هذه العلاقات عدد لا بأس به من الرجال والشباب الذين يعملون في المستوطنات، أو من أشخاص لديهم مصالح تجارية في الداخل، ويعمد بعض منهم إلى هذه الخطوة لتسهيل الحصول على التصاريح أو الهوية أو الجنسية، وذلك يسهل عملهم ويعطيهم بعض الامتيازات . وبحسب دراسة صادرة عن "بنك إسرائيل المركزي " فإن نسبة العمالة الفلسطينية التي لا تحمل تصاريح زادت في السنوات الأربع الماضية بنسبة كبيرة تصل إلى 100% بعدد يبلغ 92 ألف عامل فلسطيني في "إسرائيل" للعام الماضي، بينما وصل عدد العمال الذين يحملون تصاريح عمل داخل "إسرائيل" إلى 59 ألف عامل بنسبة 64% من إجمالي عدد العمال


صدامٌ بين السياسة والمجتمع !

يسعى الاحتلال بطريقة أو بأخرى إلى تسهيل هذا الأمر ومحاولة دمج هؤلاء في المجتمع "الإسرائيلي" بشكل أكبر، ليقتنع الفلسطيني بأن التصريح أو الهوية التي حصل عليها من خلال هذا الزواج أهم من "متر أرض لنا ومتر لكم"، وبطبيعة الحال يتحفّز فيما بعد الكثير من الفلسطينيين ممن لهم مصالح في الداخل المحتل على الزواج من زوجة ثانية يهودية أو ممن يحملن "الهوية الزرقاء" لنفس السبب.
ومن ناحية ثانية فإن لهذا الأمر تأثيرات اجتماعية خطيرة فهو يدمّر القاعدة الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني ويهدد استقرار الأسرة، عدا الزواج غالبا غير مرحّب به في مجتمعنا الفلسطيني خاصة إذا كان زواجاً ثانياً .

ويقول الناشط الاجتماعي محمود عمرو لوكالة "نبأ برس": "إن الزواج من عربيات لا يخالف عرف ولا دين، في حين أن الزواج من يهوديات وفي ظل الظروف السياسية يعتبر أمر مختلف، عدا عن أن الزواج لمصلحة غالباً ليس بناجح وله عواقبه السلبية على الأسرة الأصلية والأبناء، كما أن الشخص لا ينجح بالوصول إلى مبتغاه الاقتصادي بل يتحمل أعباء اقتصادية إضافية الأمر الذي يزيد من معاناة الأسرة بالكامل".
ويضيف عمرو: "غالباً لا يصرّح الزوج لزوجته بهذا الأمر ويتم اكتشافه مؤخراً ، مما تضطر بعض الزوجات للجوء للمحاكم لحفظ حقوقهن ؛ مما يؤدي إلى التوتر في الأسرة ومن هنا تبدأ معاناة جديدة وفي كثير من الأحيان ينتهي الموضوع بالطلاق".


ويتابع قوله: "من الطبيعي نشوء علاقات في المناطق التي تشهد نشاطاً تجارياً ، ولكن في أحيان كثيرة من يقوم بهذا أشخاص غير ملتزمين دينياً وأخلاقياً ، الأمر الذي يعكس صورة سلبية، علماً أن بعض المواطنات "الإسرائيليات" غير يهوديات وحضرن لمصالح نتيجة للخداع "الإسرائيلي" . فضلاً عن ذلك، بالنسبة للقانون "الإسرائيلي" فإن هذا يعد زواجاً من فتاة "إسرائيلية" وحتى ولي الأمر لا يستطيع منعها من الزواج كما أن القانون "الإسرائيلي" يجيز لها جلب زوجها للمحكمة لأبسط خلاف". 
ولكن نشير هنا إلى أن أهالي الفتيات اليهوديات المتزوجات من فلسطينيين يرفضون أن تعيش بناتهم مع أزواجهم في مناطق فلسطينية، مما يضطر الزوج للانتقال للعيش معها في الداخل المحتل لفترة مؤقتة أو دائمة وترك عائلته الأولى وهذا يؤدي إلى تفكك الأسرة وتشتتها، ويؤكد على ذلك سامي الدروايش والمتزوج من يهودية منذ 18 عاماً وتعيش معه في مدينته دورا حيث يقول "والدتها رفضتني رفضاً باتاً حيث قامت بالشكوى علي للشرطة "الإسرائيلية" وسجنوني لفترة، كما أن والدها يقاطعها إلى الآن، ورغم ذلك كنت مصراً على إحضارها للعيش معي ومع عائلتي الأولى في دورا". 


عائلات مشتتة الأوصال

" حياتي أصبحت جحيم" ، هذا ما قالته (م .ع ) وهي إحدى الزوجات التي ذهبت ضحية هي وأولادها لمثل هذا الزواج، حيث تزوج زوجها زوجة ثانية يهودية من مدينة اللد المحتلة للحصول على "الهوية الإسرائيلية" بغرض الإقامة داخل الأراضي المحتلة ، ويعيش الآن مع زوجته اليهودية 8 سنوات متواصلة في الداخل تاركاً 4 أولاد دون اكتراث، ولا يوجد مُعيل لهم سوى والدتهم وتساعدهم وزارة الشؤون الاجتماعية بمبلغ زهيد لا يكفي احتياجاتهم، وهذا ما دفع أولاده لترك مدارسهم من أجل إعالة أنفسهم وأمهم مع أنهم صغار السن

وتقول الزوجة: لـ"نبأ برس": "لو توفى زوجي لكان أشرف لي من العمل الذي قام به، فهو لم يكتفِ بالزواج من يهودية وتركنا أنا وأولادي دون معيل، بل حاول بيع أراضٍ لليهود، وعند اكتشاف أمره هرب إلى الداخل المحتل وحكمت عليه المحكمة بالسجن 10 سنوات غيابياً". وتتساءل زوجته عن السبب الذي دفع به القيام بذلك، مع أنه كان يعمل داخل الأراضي المحتلة ويأخذ أجراً جيداً بالمقارنة مع العمال الآخرين؟.

وفي ذات السياق ألقت الشرطة الفلسطينية قبل عدة أيام على فتاة "إسرائيلية " في منزل شاب جنوب الضفة الغربية، والشاب المدعو (س.م ) مطللوب للشرطة لقيامه بعدة أمور خارجة عن القانون منها السرقة وتجارة المخدرات.
وقد تبين فيما بعد بحسب الشرطة أن الفتاة زوجة الشاب المدعو، مع العلم بأنه متزوج من زوجة أخرى فلسطينية وله عدد من الأبناء

هذه القصص دخلت إلى بيوت العائلات الفلسطينية، والتي أدى بها الحال إلى عائلات مشتتة الأوصال، قسم منها في الداخل المحتل والقسم الآخر في الضفة الغربية. وفي بعض الحالات يأتي الزوج بزوجته اليهودية لتعيش معه في الضفة ولكن تبقى عائلته الأولى غير متقبلة لوجود معها مرة أخرى وخاصة زوجته ، وفي حالات أخرى قد ينتهي الأمر بالطلاق!. 
وفي أحسن الأحوال قد تتقبل الزوجة الأولى الأمر ولكن يبقى هناك شَرْخ قائم بين الزوج وعائلته عدا عن نظرة المجتمع له
ويعزي الناشط السياسي والاجتماعي د.هايل هوارين  السبب وراء تفشي الظاهرة إلى تردي الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية التي ارتفعت فيها نسبة البطالة إلى معدل قياسي.

 ويضيف د.هوارين في حديثه لـ نبأ برس " بأن هناك أسباباً أخرى تدفع الشباب للزواج من الداخل المحتل أهمها إمكانية العبور للداخل المحتل ، إضافة إلى أن هذا الزواج غير مكلف ، عدا عن أن عدداً من الشباب يسعى وراء هذا الزواج طمعاً في تصريح دخول أو هوية وإن كان من الصعب الحصول على ذلك ، وهذا المشروع اقتصادي بحت أكثر من كونه مشروع تربطه علاقات إنسانية مما يجعله في حالة توجس وخوف وارتباك من المستقبل. فترك زوجة وأولاد من أجل عمل وزوجة أخرى يؤدي إلى خلل في العلاقات الاجتماعية والسنن الربانية وقد شهدت قصص كثيرة بهذا الشكل للأسف

من جهة أخرى أشار هوارين إلى أن "إسرائيل" لديها استراتيجيات بعيدة المدى بهدف "التشويه الديموغرافي" للمناطق التي تحدّها مناطق أخرى تحت السيطرة "الإسرائيلية".
واستكمالاً لحديث الناشط السياسي والاجتماعي، وبناء على سؤال لعدد من العمال الذين يعملون داخل "الخط الأخضر" عن ردة فعلهم فيما إذا حصل انتفاضة أو حرب حقيقية، أجمع أغلبهم بأنهم لن يتدخلون تدخلاً مباشراً خوفاً على رزقهم وعملهم، وتساءلوا عن مصير آلاف العمال الذين يعملون داخل المستوطنات وعن مصير عائلاتهم!.