"سندفع الفلسطينيين لتبني استراتيجيات تخدم مشروعنا في الوقت الذي نشعرهم فيه أنهم يحققون إنجازاً وطنياً"                                                                                                                                                                                     شمعون بيرز

رغم أن الإجراءات الإسرائيلية في التعاطي مع الفلسطينيين كانت نتاجات لظروف تفرضها طبيعة الصراع ومستوى حدته، إلا أن كل إجراء تكتيكي هو في الحقيقة انعكاس لنظرية استراتيجية تمت مناقشتها طويلا في أروقة مراكز الدراسات الإسرائيلية، وحٌسبت فيها الثمار والخسائر ملياً قبل أن تخرج إلى حيز التطبيق.

فمثلاً، لم يكن قرار الخروج من قطاع غزة عام 2005 وليد لحظته أو حتى سنته، رغم أن كلفة الفعل المقاوم في سنوات الانتفاضة الثانية هي من أجبرت (إسرائيل) إلى اللجوء إليه، لكن فكرة البقاء في قطاع غزة أساساً كانت قد خضعت إلى نقاش عميق قبل أكثر من عشرين سنة من اشتعال انتفاضة الأقصى الثانية.

ويستند الاحتلال في تحجيم الوجود الفلسطيني على استراتيجيين متناقضتين، الأولى سميت بـ "الاندماج الأقصى" والثانية " الانفصال الأحادي" وهي نظريات غير معلنة، أسهم التناوب في تطبيقها إلى بقاء الفلسطينيين في حالة تبعية معيشية مطلقة للاحتلال، وترافق تطبيقهما مع بناء واقع فعليٍ يصعب تغييره، فغزة التي رٌسّمت الحدود فيها مع (إسرائيل) هي نواة الكيان الفلسطيني التي تترقب إسرائيل الفرصة لتعزيز وجوده، بعد أن يبتلع الاستيطان ما تبقى من أراضٍ في الضفة التي ذاب فيها الوجود الفلسطيني وارتبطت حياة سكانه بالاحتلال ارتباطاً بنيوياً وحياتياً عصيٍ عن التغيير.  
 

الاندماج الأقصى

بعكس الظاهر، لا تحمل نظرية "الاندماج" أي مستوىً من الطيبة والوداعة، صاحبها هو "موشيه ديان"  الذي كان يشبك حين يشرح نظريته كلتا يديه، تعبيراً عن مستوى "الجسور المفتوحة" التي لا بد أن تتغلغل بين المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، وصولاً إلى اختراق تلك الجسور لعقل الفلسطيني الباطن، الذي يجب أن يدرك أنه محتاج لوجود الاحتلال في أدق تفاصيل حياته، استمر الاحتلال في تطبيق فكرة "ديان" على قطاع غزة والضفة المحتلة على حدٍ سواء، فمنذ العام 1967 تداخل الوجود الفلسطيني مع الإسرائيلي، وتدنت قبيل انتفاضة الحجارة عام 1987مستوى العدائية بين الجندي الإسرائيلي والفلسطيني إلى أكبر درجة ممكنة.

ويعاود حديث الجيل الذي عايش تلك الحقبة، التذكير بحالة "الألٌفة" التي ربطت بين الجندي الإسرائيلي وابن المخيم الذي كان والده يعمل طيلة أيام الأسبوع في الداخل المحتل.
ومثّل الممر الآمن وحجم ويٌسر العمل في (إسرائيل) إحدى المظاهر البارزة قبل "أوسلو" وبعد قدوم السلطة عام 1994 بقيت كل المظاهر السيادية من -المطار والميناء والنشاط التجاري والصناعي- الذي انتعش في تلك الحقبة، رهينة لقرار الاحتلال.

تعاطي مزدوج

دفع ضغط الفعل المقاوم في السنوات الأربع الأولى من انتفاضة الأقصى عام2000 وما رافقه ارتفاع كلفة بقاء الجيش الإسرائيلي وعدد المستوطنين المحدود في قطاع غزة، إلى التخلي عن نظرية "الإندماج" في التعاطي مع القطاع تحديداً، لصالح "الإنسحاب وترسيم الحدود" وصاحب هذه النظرية هو بنحاس سافير، وصار التعاطي مع قطاع غزة وفقاً للثانية، بينما أٌبقي التعاطي مع الضفة وفقاً للأولى.


 بالعودة للضفة الغربية، فقد عملت حكومة الاحتلال على دمج العلاقة بين فلسطيني الضفة والاحتلال إلى أقصى مدى، فالنشاط الصناعي للسلطة مقنن، للحد الذي لا تسمح عائداته بتمويل كيان سياسي قائم بذاته، في مقابل ذلك، عزز الاحتلال من اعتماد السلطة على الاقتصاد الاستهلاكي القائم على النشاط التجاري، فضلاً من ذلك، أدى التضخم في مظاهر الحياة الاجتماعية "ارتفاع مستوى الحياة وكلفتها" وضيق سبل العمل والاستثمار، إلى لجوء شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة للبحث عن العمل في مستوطنات المدن المحتلة، الأمر الذي جعل بقاء الفلسطيني مرتبطاً ارتباطاً وجودياً ببقاء الإسرائيلي.

 المختص بالشأن الإسرائيلي عدنان أبو عامر قال، إن الاحتلال ومنذ عام 1967 هدف إلى أن يكون الاقتصاد الفلسطيني تابعاً له بصورة مطلقة سواء معيشياً أو اجتماعياً من خلال التفوق الاقتصادي الإسرائيلي، بمدخلاته المالية ورأس ماله المتقدم وجعل الاقتصاد الفلسطيني في مرتبة متدنية جداً حتى يكون في حالة تبعية مطلقة للاقتصاد الإسرائيلي.

هذا الاندماج بمفهومه الإسرائيلي، جعل المجتمع الفلسطيني بأيديه وقواه العاملة في خدمة المجتمع الإسرائيلي مقابل المال، الأمر الذي أوجد الحاجة الفلسطينية الضرورية للإسرائيلي، وهذا يعني نجاح الاحتلال في تحوير الهدف الفلسطيني أولاً من وطني إلى البحث عن الخبز الإسرائيلي، وثانياً من نفي الوجود الإسرائيلي إلى الحاجة والاعتراف بهذا الوجود من اجل
الإبقاء على لقمة العيش.

الدكتور ناجي البطة المختص في الشأن الإسرائيلي زاد على حديث سابقه قائلاً، الفلسطينيون للأسف حتى اللحظة ليس لديهم قاعدة اقتصادية وطنية يمكن الانطلاق منها أو البناء عليها، ولذلك وجدنا التجاوب في الاندماج من المجتمع الفلسطيني في المجتمع الإسرائيلي، وهذا مخطط خبيث، دأب الاحتلال على اعداده سنين، فأن تملك قوت جماعة يعني أنك ملكت كل ادراكهم وتحكمت بميولهم وأولوياتهم، إذ لا يمكن أن يسمح بأن تقوم لنا أي بنية اقتصاديه، وللأسف المفاوض الفلسطيني وخاصة في "أوسلو" ساعده على ذلك بكل "بلاهة"، ولا يمكن أن يفكر العدو الصهيوني بترك الضفة على الإطلاق ويعتبر وجوده بالضفة استمراراً لتمدد المشروع الصهيوني .

وأضاف البطة، بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 67 الضفة والقطاع تم تشكيل لجنة للبنك الإسرائيلي المركزي كجهة اعتبارية ولجنة الإحصاء المركزية، من أجل دراسة اقتصاد الضفة وغزة وربطها ربط تام بالاقتصاد الإسرائيلي، وكل ما تلى هذا العمل كـ "اتفاقية باريس" سيئة السمعة، يصب في اتجاه واحد، وهو أن الاسرائيليون ليسوا على استعداد بالقبول بوجود كيان فلسطيني يتمتع باستقلاليته الاقتصادية لأنها تدرك أن التبعية المطلقة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني الآن ستتلاشى فورا، ويتحرر بذلك القرار والتوجه الوطني والسياسي.

لغزة الانفصال والدمج للضفة

أمام وهج الانجاز الذي حققته المقاومة في القطاع، لم يأخذ الحديث عن المخطط الإسرائيلي حجمه في الإعلام المحلي، ولم تظهر هناك محاولات مهنية لمحاولة تجليس الخطوة الإسرائيلية في سياقها السليم، ففي حقيقة الأمر، فإن (إسرائيل) وظفت ما اضطرت إلى فعله – الانسحاب من غزة- لصالحها على المستوى البعيد، استراتيجية "بنحاس سافير" وهو وزير المالية السابق، التي يرى فيها أنه على حكومة الاحتلال أن تضع خطّاً حدوديّاً واضحاً وترسم الخطوط السيادية مع قطاع غزة، مع إبقاء الأوضاع المعيشية للقطاع رهن اليد الإسرائيلية.

فإمكانية ضم القطاع استيعاب سكانه وفق نظرية "الاندماج الأقصى" تبدو مستحيلة، كما تشير دراسة نشرها (معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي) مؤخراً؛ لأنه كان من المستحيل وفق – الدارسة- أن يتم استيعاب بقعة جغرافية محدودة المساحة  تحوي مليون و أربعمائة ألف شخص معادي – عدد سكان غزة عام 2000- ، لذا كان ترسيم الحدود مع غزة، أمثل الحلول التي يمكن أن تحقق وجوداً فلسطينياً منعزلاً وقابلاً للبناء عليه لدولة مستقبلية، وعامل "إلهاء" داخلي لقوى المقاومة التي تمتلك برنامجاً سياسياً يدفعها تعاظم وجودها للمنافسة على السلطة.

إذاً، كان ترسيم الحدود خياراً استراتيجياً مع غزة لأنها في عين (إسرائيل) الهامشية، بل وبقاءها تحت سيطرتها هو عبء عديم المنفعة، على عكس الضفة الغربية التي يسعى الاحتلال لدمج سكانها معيشياً وثقافياً وفكرياً؛ تمهيداً لابتلاعها نهائياً.