"الكبار يموتون والصغار ينسون".
                                                 " ديفد بن غوريون " 

الحرب التي تبدو أكثر خطراً من الرصاص والمدافع، تبدأ فعلياً عندما تتوقف المعركة بمفهومها التقليدي، حرب الوعي الناعمة التي لم تتوقف (إسرائيل) عن ممارستها؛ بهدف انتاج جيل مشوه فكريًا ومنحرف من حيث أولوياته، ومنصاع للإملاءات الإسرائيلية؛ في سيبيل المحافظة على مكتسباته الحياتية المحدودة، أو حتى تدمير إرادة (المقاومة المكلفة) لديه،
حتى يصل إلى قناعة القبول بالوقائع التي تصنعها على أرضه وأمام مرأى من عينيه.

خبراء ومختصون في الشأن الاسرائيلي أكدوا أن (إسرائيل) تتبع أساليب لـ "كي الوعي" الجمعي لأعدائها، ففي الضفة الغربية اختلفت التكتيك المتبع لتحقيق الأهداف، فبحكم امتلاك الاحتلال لحرية التنقل داخل مدن وبلدات الضفة، فضلاً السماح بالعمل في الداخل المحتل، فإن السعي لربط حياة فلسطيني الضفة بوجود الاحتلال، ودفعهم أكثر للاعتماد عليه في أدق تفاصيل حياتهم، هي الوسيلة المثلى بالنسبة لإسرائيل في تشكيل مزاج شعبي منسلخ عن هموم الوطنية وغير متفاعل مع أحداثها، خصوصاً بعد تدمير البنية العسكرية للأجنحة الفصائل هناك.
أمّا في غزة، فيسعى جيش الاحتلال إلى صناعة الأزمات ومن ثم إدارتها؛ لكي تتمحور حياة السكان في إطار البحث عن حلول عن الأزمات المستحدثة، وفي حال وصلت حالة التأزم إلى الانفجار، يعمل الجيش الإسرائيلي إلى الرد بعنف، ليرفع كلفة المواجهة (مادياً وبشرياً وسياسياً)  بالنسبة لسكان القطاع، للوصول بالشارع إلى مرحلة من الإنهاك، يفقد فيها الرغبة بالمقاومة أو حتى رد الفعل.
 

ولا زالت نظرية "الجدار الحديدي" التي وضعها "زئيف جابوتنسكي" وهو أحد أكبر رموز التطرف في تاريخ الحركة الصهيونية، حاضرة في السياسات الاستراتيجية الإسرائيلية، وتقوم هذه النظرية على فكرة تكبيد الخصوم خسائر كبيرة تؤدي لتحويلهم من خصوم "متطرفين عنيدين" إلى "معتدلين على استعداد للمساومة"، ويتبدى مفهوم هذه النظرية من في كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو حين يقول " إن السلام بين اسرائيل وجارتها هو سلام ردع، وان احتمال تحقيقه يعتمد بصورة مباشرة على قدرة اسرائيل على الردع، فكلما بدت اسرائيل اقوى ابدى العرب موافقتهم على ابرام السلام معها .. لا أمن باستثناء الأمن الذي يعتمد على ردع المعتدي، وهذا هو السلام الوحيد الذي يمكن تحقيقه بين اسرائيل والعرب".

وتواصل (اسرائيل) الفتك بالوعي الفلسطيني الجمعي عبر تطويع التقنيات الحديثة وتسخيرها لصالحها، وهو ما تؤكده الكاتبة الإسرائيلية هداس هروش، من خلال العمل على الصفحات الالكترونية التي تخضع لما يسمى بـ "الدبلوماسية الرقمية" الإسرائيلية، التابعة لقسم "الدبلوماسية الرقمية" العربية في وزارة الخارجية التابعة للإحتلال، مشيرة إلى أن هذا المصطلح حديث نسبيًّا، حيث أفتتح قبل 5 سنوات فقط، وأصبح تابعا لوزارة خارجية الاحتلال، عندما أدركت ضرورة مخاطبة الشباب الفلسطيني والعربي وغزو أفكاره.

من جهته، أكد المختص بشؤون القدس جمال عمرو، أن سلطات الاحتلال تحاول تنشئة جيل مشوه فكريًا ومنفصل عن ذاته وهويته الدينية والوطنية والتاريخية "كي يسهل لها تنفيذ مخططاتها بالمنطقة والقضاء على كافة أشكال المقاومة هناك". وعدّ عمرو، أن غياب السلطة الفلسطينية عن المدينة أعطى فرصة إضافية للاحتلال للسيطرة على الوعي الثقافي في شرقي القدس المحتلة "إذ يتوجب على السلطة توفير الأموال والحفاظ على هوية المكان الذي تعتبره عاصمة الدولة الفلسطينية وفق خيار حل الدولتين".

فيما يرى المختص في الشأن الفلسطيني أحمد عمرو في حديثه لـ "نبأ برس" أن مواجهة "كي الوعي" تكمن في التمسك بالثوابت والحفاظ على الأهداف العليا دونما تنازل أو تغيير وعدم الانجرار وراء بعض المكاسب السريعة ذات الطبيعة المظهرية كالاتصالات والعلاقات السياسية، وبعض أشكال الدعم المادي والاحتضان مدفوعة الثمن.

وتابع "كما يتوجب إفساح المجال للنقد الذاتي ومراقبة الأداء والمحاسبة على التقصير، والالتصاق أكثر بنبض الجماهير ومعاناتها وتطلعاتها. والتفريق بين الفرص المتاحة والفخاخ القاتلة، كشعارات "الرفاه تحت الاحتلال" والسعي لبناء السلطة قبل التحرير، والاستقواء بالعدو أو القوى الخارجية لتصفية حسابات مع القوى الوطنية المنافسة".

ودعا إلى ضرورة التعرف على نقاط ضعف العدو، ووضع اليد على الثغرات في بناه السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، واستشعار القدرة على النفاذ من خلال هذه الثغرات لمواجهته، وإدراك أن العدو لديه معاناته وأزماته أيضاً. وخلص عمرو إلى أن المطلوب عدم وقوع المجتمع الفلسطيني في أسر الهزيمة النفسية، وأن يستشعر معاني العزة والكرامة والحق والعدل، وأن لا يسمح للعدو باختراق بناه الفكرية والأيدولوجية، والعبث بثوابته، وبالتالي بقاء الأمل بإمكانية التغيير والتحرير مع تداول الأيام والأجيال.