على نحوِ أكثر فداءَ من صورة المرأة التي أجبرتها ظروف العمل القاسية على الخروج للاحتجاج عام 1856 في شوارع "نيورك" وأُقرّ لأجلها يوم المرأة العالمي، تتصدر النساء الفلسطينيات مقدمة نماذج المرأة في العصر الحديث، وليست (باقة الورد والخبز) اليابس الذي حملته النسوة في عواصم المدن الغربية رمزاً لشقائهن، كافية لوصف مقدار الحب والتضحية والقسوة أيضاً التي تعيشها أمهات الشهداء وزوجاتهم.
ختام جرار "أم صهيب"، والدة الشهيد أحمد، إحدى الأيقونات الوطنية التي تصدرت المشهد ببراعة، لم يحملها جناحا زوجها القائد نصر ونجلها أحمد فقط إلى صدارة المجتمع، بل قدمت هي نفسها انموذجاً جميلاً من العطاء والصبر والذكاء الإجتماعي الفائق، فأي أيقونة يمكن أن تعبر عن عزمها المجبول بالفداء والحب، قلب ووطن، أم دمعتين ووردة !
أم صهيب جرار، كانت ضيفة "نبأ برس" في يوم المرأة العالمي، وبعيداً عن قالب السياسية الجامد، تركنا لـ زوجة القائد نصر، أن تستعيد ذكرياتها بين ما كانت تأمله من شكل الحياة مع رفيق العمر في أحلام الطفولة والصبا، ما حكم عليها القدر أن تحياه، بين أحمدها الجميل الهادئ، وأحمدنا البطل المطارد، وتفاصيل أخرى، أخذنا الفضول أن نقاطع "ختام" في حديثها كي نروي ضمأ فضولنا في معرفتها.
أنا ختام إبراهيم جرار (أم صهيب)، عمري: 47 عاماً، أعمل ربة بيت.
تزوجت من نصر جرار الذي يكبرني ب 12 عاماً خلال شهر نوفمبر من العام 1988،عرفت حين الخطوبة أنه أسير محرر من سجون الاحتلال بعد اعتقال لمدة 10 سنوات، ولم أكن أعرف أنه مقاوم.
عشت مع أبو صهيب 12 عاماً نصفهم قضاها في سجون الاحتلال، وحينما خرج من السجن، لم يمكث معي سوى عامين، ومن ثم بدأت رحلته بالمطاردة، وخلالها أُصيب عام 2001 في انهيار أحد المباني عليه في مواجهة مع قوات الاحتلال، وبُترت يده وقدمه، وفي اشتباك آخر أثناء اقتحام مخيم جنين أُصيب وبترت قدمه الأخرى، وبعدها أبعد عن البيت سبعة أشهر لم نره خلالها، إلى حين استشهاده عام 2002 في اشتباك مع جيش الاحتلال بعد رحلة مطاردة طويلة.
لم أشعر يوماً أنني زوجة مقاوم، كانت الحياة تسير كما الآخرين، وحين تأتي قوات من الاحتلال الإسرائيلي لاعتقال أبو صهيب من البيت كنت أسأله: "ليش بدهم ياك"، يجيب: "لا أعرف ماذا فعلت، ربما لأنني كنت معتقل لديهم.. ولا حاجة للخوف علي".
أما بني الأكبر فهو صهيب (28 عاماً) ويليه الشهيد أحمد، ومن ثم ابنتي جينا (16 عاماً) سميتها "جينا" عقب الإفراج عن والدها من الاعتقال الإداري بسجون الاحتلال ، يومها قال أبو صهيب وهو عائد من المعتقل: "جينا" والأخير هو ابني محمد الذي أنجبته بعد استشهاد والده بـ 37 يوماً.
ليس من السهل العيش كأرملة وأم أبناء هُدم بيتهم عقب استشهاد والدهم، حينها كنت حامل بابني محمد وطفلتي جينا بعمر الثلاث سنوات ونصف، وأخيها أحمد 10 سنوات وأكبرهم صهيب 12 عاماً، كانت مرحلة صعبة جداً في حياتي.
حب نصر جرار لي لم يكُن عادياً، كان يعزني كثيراً وكنت مغرمة به، لذا لم أفكر بالزواج بآخر من بعده، لا زلت أشعر أنه معي يرافقني في كل مكان.
لم أفكر أن اُغير أم صهيب بعيون من يعرفها بعد استشهاد نصر جرار، لا زلت كما أنا، تربية أبنائي وكسب الثواب من الله هو ما يهمني في حياتي، وأسأل الله أن يصبرني على فراق أحمد ووالده.
حافظت على أبنائي، وكنت أعلمهم طريق الحرام والحلال، حتى يستمروا على هذا الطريق طوال حياتهم، داوموا على الصلاة من ست سنوات، وعرفوا ما الذي يجب أن يشاهدوه وما الذي يجب أن يجتنبوه.
اليوم الذي لا يُنسى في حياتي، هو يوم اقتحام جيش الاحتلال لمنزلنا بحثا عن ابني الشهيد أحمد، تفاجأت بتنفيذه للعملية، فبعد تنفيذ عملية مقتل الحاخام الإسرائيلي، لم أشعر بتغيير في حياته، كان يذهب لعمله ويعود سعيدًا بشكل طبيعي لم أشعر بأنه مقاوم، حتى المصحف الذي أهداه إياه والده، لم أعلم أنه كان يأخذه معه خارج البيت إلا بعد استشهاده.
كان أحمد حنونًا، يقبّل يدي دائما، كان له بصمة جميلة في البيت، لذا تتساءل شقيقته، كيف سنعيش بعده، إلا أنني أخبرتها أننا يجب أن نصبر ونحمد الله، وهناك من يتعجب من صبري على رحيل أحمد، الذي كبر سريعاً، ولم يعد يسمح لي أن يكون ابني وحدي، فقد صار ابن فلسطين، بل ابن كل أحرار العالم، وهذا فخر لنا جميعاً.
كن أول من يعلق
تعليق جديد