يبدو أن "نكتة" الخلل الفني التي تصدرت أخبار انقطاع رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في غزة مؤخراً لم تُقنع قلبَ موظفها برتبة رائد عوني حسان فأسكتته، إذ أن الموت إن حضر لا يُمهل الميتَ وقتاً كالذي يمهله الرئيس الفلسطيني محمود عباس لحركة حماس التي تُدير القطاع منذ عام 2007 حتى تُسلمه مقاليدَ قِلاعها، تلكَ القلاع الرثة، المدفونة بالفقر والعوز والحاجة.

الموت باتَ من المسلمات في قطاعٍ مُحاصرة خواصره، مكلوم قلبه، مجلود أبنائه "البِكر" سبعينَ جلدة، يتنافسُ عليه أكبر فصيلين عرفهما الفلسطينيون منذ صِراعهم الأول مع الاحتلال الإسرائيلي، (فتح 57 عاماً، وحماس 31 عاماً) متخفيان اثنينهما بالسلطة الفلسطينية بالضفة، والحكومة العاشرة في غزة، ونقطة الصراع بينهما بضعة كيلو مترات تمتد من معبر كرم أبو سالم المُغلق شمالاً، حتى معبر رفح المُغلق جنوباً، من بحر غزة ذو الستة أميال المُحاصر غرباً حتى الخط الأمني المُشتعل شرقاً، وبالمناسبة لا يعني الموت أسباب حضوره، الأمر سيانَ لديه، إن كانَ الميت صاحب دكانٍ أغلقته بلدية غزة لأنه لم يجدد رخصه، أو موظفاً من غزة قاعدته أو قطعت راتبه الحكومة الفلسطينية بحجة مرورها بأزمةٍ ماليةٍ خانقة.

عوني حسان واحدٌ من اثنين مليون مُحاصرٍ ونيف على هذه الأرض التي تستحق الحياة، حكمت عليه الظروف أن يكونَ شهيداً بغير رصاص الاحتلال، سقطَ من سجلات الأحياء بعذرٍ طبي، وتبارت بعدَ غيابه رايات الفصائل وأعلامها لتُزينَ خيمة عزاءه، فكيفَ لا يتبارون على استخدام موته في صراعهما وهو الضحية الأولى التي قدمَ هذا الصراع - بينَ فتح وحماس- روحها قرباناً لرب استثماراتهم السياسية والمالية! أو ربما لشيطان السلطة والمال الذي تلبسّهما مذ ذاقا حلاوة الحسابات البنكية والحقائب السوداء والجيبات والحرس والأرقام "البرايفت" وبطاقات (VIP) ولقاءات الصحافيين، والرحلات المكوكية بينَ الدول العربية على شرف "المصالحة".

منذ انفصال غزة المحموم بالدم عن الضفة الغربية عُريَّ ظهر الغزيون، وجُلدوا أكثرَ من سبعين جلدة، حُكماً لم ينقضه براءة ساحة هذه البقعة الحبيسة من الزنا السياسي، يتذرع الجلادونَ من الداخل والخارج بقدرة المساكين على الدفع والتأقلم، فكلما صبروا أكثر زادت الجلدات شِدة.

صديقٌ طبيب ذو انتماء فتحاوي قالَ بحدةٍ لم أعهدها فيه "والله قطع الرواتب حرام، كتير ناس صار معها القلب، طيب هم بدهم الناس تموت!".. هذا الكلام الذي تنبه أنه قاله في حضرة الصحافة كانَ يلزم بعده "مية حلفان" بعدم نشره أو نشره دونَ اسم، أو حتى تلميحاً بطبيعة وظيفته والسبب ليسَ خوفاً من كلمة الحق وإنما من "السلطة الاجتماعية الجائرة" هذه التي يجتمع عليها المظلومون تعظيماً وولاءً وإن تفرقعوا يلعنونها ألفاً، رُبما تٌشابه هذه اللعنات الصفراء تلكَ الخضراء التي صرحَ بها زميلٌ صحافي ضاعَ عليه راتبَ أشهرٍ ماضية، وصارً بنصفٍ حالياً، قال مواسياً نفسه " يعني وين حتروح المصاري، إلا ما ترجع، والحال هيك ع الكل"، خاتما كلامه بـ"والله"، كأن لفظ الجلالة على عظمته يخفي الظلم الذي يتشارك الطرفان "فتح وحماس" في إذاقته لسكان غزة مؤيدين ومنتمين ورافضينَ وحانقينَ ولاعنين.

غزة ولادةٌ متعثرة منذ احد عشرَ عاماً، جنيناً عصياً على الفهم لا أبَ له، ليسَ ابن حرامٍ ولكنه ابن نفسه.. غزة التي لا يملك أبناؤها ثروةً ماديةً ليخسروها باتوا مقبلينَ على الموت، هذا الخلاص الأسطوري الذي ينقلهم إلى الجنة حيث لا صراع على مال أو سلطة، هناكَ يشتهون فيُلبى لهم.. غزة يوسفاً في البئر يا سادة لكنَ الدم في القميص.