جلّ القائلين بالمؤامرة الأمريكية على الليرة التركية، هم من كانوا يكتفون بتشغيل الضحّاك الآلي-على وزن الطيار الآلي- حين يُقال لهم أنّ مؤامرةً تستهدف سوريا، فعلى مدى سنّي ما يسمى بـ"الربيع العربي"، عملت ماكنة إعلامية هائلة على تسخيف نظرية المؤامرة، واعتبارها مجرد "بروباغندا" يمارسها "النظام" لقمع شعبه، وهؤلاء فجأةً ومع أزمة الليرة التركية أصبحوا من أشد المنظّرين للمؤامرة، وكلا الموقفين لذات الأشخاص والأطراف هو أحد مظاهر الاحتناك المالي والمصلحي عموماً أو الأيدلوجي أو كلاهما معاً، ولكن نحن-والضمير هنا عائد على كل القائلين بالمؤامرة على سوريا- لا ننكر المؤامرة على الليرة التركية، وهذا إقرارٌ،  رغم الاختلاف الشديد مع السياسات الأردوغانية حد التناقض والصدام والعداء، ولكننا مع هذا الجزم بوجود المؤامرة، إلّا أننا لا نستطيع الجزم إن كان أردوغان أحد أطرافها أَم لا، فمن عايش مسرحية دافوس وقمة غزة في الدوحة استباقاً لمؤامرة الربيع العربي، سيكون أكثر حرصاً على ألّا يُلدغ من  ذات الجحر مرتين.

معارض سعودي اتهم السعودية بأنها تموّل حزب الله والحشد الشعبي و"النظام" السوري، كأقوى دلائله على عدائية آل سعود للأمة، ووقوفهم الدائم في صفوف أعدائها، ولا أعرف مدى خطورة الحالة الصحية لهذا الرجل، ولكن من الواضح أنه في حالة غيبوبة مزمنة، ويحيا على أجهزة طبية ذات صلاحية منتهية، لكنه حالته لا تختلف كثيراً عن "مجاهدي" الليرة، حيث يعتقدون يقيناً أنّ عضو الناتو يُعادي الناتو، ويعتقدون أنّ اقتصاد أردوغان القائم على شركات الناتو وبنوك الناتو ومستثمري الناتو يواجه الناتو، وأنّ قطر التي لا يخرج من خزينتها ريال واحد دون توقيع وزير الخزانة الأمريكي، تتحدى المؤامرة الأمريكية على الليرة التركية بمبلغ15 مليار دولار، وهذا التحدي لا يصلح إلّا كونه يمنح المغردين السعوديين مادة للمناكفة مع نظرائهم القطريين، الذين يعيرونهم بالحلب الأمريكي، فوجدوا ما يردون به كيدهم وتقريعهم بالحلب التركي، وبناءً على وقفة التحدي القطرية ووقفة العز التركية قامت الجماهير بتزكية الأمير القطري والرئيس التركي كرجلين وحيدين على هذا الكوكب، ولولاهما لاستبيحت حياض الإسلام وبيضة المسلمين، ولا أعرف إذا كان علماء الأحياء وعلماء الأجناس يلتفتون لدراسة جدية هذه التوصيفات، باعتبارها إن صحّت فهي تهديد للتناسل البشري والحياة عموماً.

 ولكن بعيداً عن هؤلاء المغيبين، شفاهم الله، فهناك عدة احتمالات لخلفيات ما يحدث، الأول هو أنّ الولايات المتحدة تمارس حقها الطبيعي كسيدٍ ومكَلِّفٍ بمعاقبة أتباعها على الفشل، في إنجاز ما كُلِّفوا به على مدى سبع سنوات، فقد عاقبت قطر من قبل على الفشل في سوريا بإعفاء الأمير ورئيس وزرائه وتسليم كرسي القيادة للسعودية، حسب اعترافات حمد بن جاسم، واستبدال الفاشلين هو أمرٌ مشروع، وهذا الاحتمال يتطلب نهاية حقبة العدالة والتنمية أو أقله الحقبة الأردوغانية، وهو ما يعني استمرار هبوط الليرة مع تداعيات خطيرة وضغطٍ متواصل وعقوبات متجددة، أمّا الاحتمال الثاني فهو إعادة تعويم الحلف التركي القطري بذات عقلية مسرحية دافوس ومؤتمر غزة، بهدف زيادة الضغط في الملف الفلسطيني لتمرير ما يسمى بـ"صفقة القرن"، وكما يبدو فإنّ الرهان الأمريكي على وليّ العهد السعودي لم يؤتِّ أُكله، لذلك فهي بحاجة لإعادة السعودية للمقعد الخلفي وتقديم قطر وتركيا، فمثلاً رغم التحالف المصري السعودي الإماراتي في وجه قطر، ومصر هي بوابة مقترحات التهدئة ومفاوضاتها، إلّا أنّ الشريك المالي لمصر في هذه المبادرات هي قطر وليست السعودية، وهذا الاحتمال يتطلب خروج أردوغان منتصراً في معركة الليرة، أمّا الاحتمال الثالث فهو أنّ أردوغان تحت وهج الاقتصاد المتنامي والحاجة الأمريكية له، حاول اللعب على حافة الهاوية، فحاول التوجه شرقاً لتحصيل المكاسب غرباً، وذلك قبل اكتشاف أنّ اقتصاده مجرد فقاعة غربية، كانت الوسيلة المثلى لخلق نموذج "إسلامي" ملهم على المقاس الأمريكي، وأنّ أمريكا لا تسمح لأتباعها بهذه اللعبة معها، وما عليهم إلّا التنفيذ والطاعة مقابل الحماية والسلطة، فبعيداً عن عنتريات "المايكروفون" يبحث أردوغان عن أيسر السبل وأسلمها للعودة إلى بيت الطاعة الأمريكي.

يقول محمد زاهد غول وهو الكاتب المقرب من الحزب الحاكم في تركيا" إنّ رأيي الشخصي أنّ التوجه شرقاً هو خطأ استراتيجي، فتركيا منذ إعلان الجمهورية نشأت غربية، ومن الأجدى أن تبقى غربية"،  وهذه العبارة هي مخ الحقيقة، فتركيا لا تختلف عن المحميات الخليجية في علاقتها بالولايات المتحدة، الفرق الوحيد أنّ تركيا بحكم تاريخها وموقعها وقدراتها العسكرية وعضويتها في الناتو، تحظى باستثناء أمريكي من سياسة الإذلال المعلن التي تُمارس في حق آل سعود، وبعيداً عن هذه القواعد لا نعرف كيف ستنتهي هذه الأزمة وأيّ الاحتمالات أقرب، ولكنها بكل الأحوال لن تنتهي لصالح المهللين لأردوغان وقضاياهم، بل ستكون على حسابها، أمّا انسحاب تركيا من عضوية الناتو وإغلاق قاعدة "إنجرليك" وقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع الكيان الصهيوني، والدخول في مواجهة فعلية مع الولايات المتحدة على غرار إيران، فهذا بحاجة إلى خميني آخر لا إلى أردوغان مستنسخ، رغم أنّ هذه الخطوات هي النصيحة الأثمن التي قد تُقدم لأردوغان في هذا التوقيت، لأنها تعني القفز من مركب الآيلين للسقوط إلى مركب الصاعدين، ولكن من شبّ على شئٍ شاب عليه.