قد يحاجج البعض بأنّ عباس يناور بذكاء دبلوماسي باشتراط انضمام"إسرائيل" للكونفدرالية مع الأردن، باعتبار أنّه يعرف الرفض"الإسرائيلي" المسبق، وبالتالي إظهارها كمعيق لعجلة السلام وإحراجها، وهذا بدوره جزء من عملية طحن الهواء الذي تمارسه السلطة منذ تأسيسها، ولكن الأهم هو النقاش الذي سيدور حول الفكرة"إسرائيلياً" وعربياً وفلسطينياً، سيجعل من "إسرائيل" ليس فقط كياناً قابلاً للتعايش معه بمبرراتٍ خيانيةٍ شتى، بل ستصبح فكرة أن تكون"إسرائيل" هي الوصيّ على المنطقة أمراً مستساغاً وقابلاً للنقاش تمهيداً لقابليته للتنفيذ، وهو الأمر ذاته الذي يتم تنفيذه منذ رحيل صاحب اللاءات الثلاث، حيث يتم رميّ القنبلة الصوتية ثم قياس ردّات الأفعال، ثم تكرار لعمليات الرماية والقياس حتى الوصول لموعد رمي القنبلة الحقيقية، فتكون العقول والأسماع والأبصار شبه مخدرة، لاستقبال ألم الانفجار دون أنين أو صراخ، إنّ تطوع عباس لحشر"إسرائيل" في بوتقة عربية بغض النظر عن اسمها أو طبيعتها، هو تمهيد فلسطيني مخجل حدَّ العار لاعتبار الصهيونية نسيجاً تاريخياً وجغرافياً وحضارياً لعروبة وإسلامية هذه المنطقة.

وبالطبع ليس عباس هو المتطوع الوحيد، فقد عُرضت الكونفدرالية على الأردن، وقبل تسريب عباس للعرض الأمريكي لم نسمع رفضاً أردنياً كما حدث بعد التسريب، وهو ما يشي بأنّ الولايات المتحدة حصلت على"نعمٍ" أردنية في مكانٍ ما، خصوصاً أنّ عباس لم يشترط موافقة أردنية، بل اعتبر أنّ"إسرائيل" هي العقدة لا الأردن، وما الرفض الأردني المتشنج إلّا جزءً يسيراً ومتوقعاً في مشهد القنابل الصوتية، فالأردن في خضم العدوان على سوريا وفي بواكيره، كان موعوداً بضمّ الجنوب السوري ضماً حقيقياً أو وصايةً، فما الضير باستبدال فشل ضمّ الجنوب السوري بضمّ الغرب الفلسطيني، طالما أنّ الأمر مجرد عقارات قابلة للبيع والشراء والسمسرة، خصوصاً أنّ سيد الجميع في البيت الأبيض تخصص عقارات، كما أنّ اللافت أنّ عباس لم يشترط دولة فلسطينية ذات سيادة، بل مجرد كيان عبارة عن تجمع سكاني مع قوة شرطية بالعصي، أيّ حكومة ذاتية في ظل دولة أردنية، وما الترقيع الذي يمارسه الناطقون باسم السلطة، عن ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة قبل الحديث عن الكونفدرالية، إلّا جزء من مشهد القنابل الصوتية أيضاً، والأهم أنّ هذا المقترح "الإسرائيلي" ترفضه"إسرائيل".

ورغم أنّه مقترحٌ "إسرائيلي" من ألفه إلى يائه، فإنّ "إسرائيل" تتعاطى معه باستخفافٍ شديد، وكما قال جون كيري في مذكراته بأنّ نتن ياهو سلّمه مقترحاً للتهدئة إبانّ العدوان "الإسرائيلي" على غزة عام2014، ثم قام بتسريبه للصحافة باعتباره مقترحاً أمريكياً، متهماً الإدارة الأمريكية بأنّها تتبنى وجهة نظر حماس، وهذه السياسة تخدم نتن ياهو و"إسرائيل" على أكثر من صعيد، فهي تبدو كصاحبة اليد العليا وترفض تقديم أيّ تنازلات مهما كانت ضئيلة، كما أنّها ترسل لأعدائها رسالة قمعٍ وإحباط من استمرار المقاومة، ورسالةٌ أخرى للوسطاء بتوجيه الضغط للطرف الآخر –الضعيف- لا "إسرائيل" ونتن ياهو -الطرف القوي-، كما يبدو نتن ياهو في عيون ناخبيه الرجل القوي القادر على حمايتهم وقهر أعدائهم،ولكن جون كيري قال أيضاً في ذات الكتاب، أنّه لم يرّ نتن ياهو بهذا الضعف متخلياً عن عنجهيته وتبجحه كما رآه حين نجحت حماس عام 2014 في إغلاق المجال الجوي لفلسطين المحتلة، أيّ أنّ نتن ياهو وهو في قمة ضعفه وهوانه يرسل رسائل القوة والعنجهية، وهذه المفارقة لا يجب أن تغيب عن أيّ مقاومٍ فلسطيني، وأنّ القوة "الإسرائيلية" تتآكل، والسلم يمنحها مزيداً من أمصال العنجهية، والمفاوضات تزيدها نهماً وتغولاً، أما سياسة إحراج"إسرائيل" فهي دعابة سمجة لا يستحق صاحبها سوى الصفع.

منذ معاهدة كامب ديفيد يتم حقن الوعي العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً بفايروس فقدان المناعة المكتسبة، وما بعد اتفاقية أوسلو تضاعفت عمليات الحقن وتضخمت الجرعة، حيث أصبح الوعي العربي والفلسطيني مصاباً بالإيدز، سهلٌ أن يُصاب بأهون جرثومة وأضعف من أن يقاوم، والكونفدرالية هي جرعةٌ قد تكون قاتلة، ليس لأنها قد تصبح واقعاً كجزءٍ من صفقة القرن، بل لأنّها ستجعل مقاومة جسد الوعي أقل هشاشة وأكثر تقبلاً لاحتضان جرثومة"إسرائيل" التي تفتك وستفتك بكل المنطقة في حال الهدوء والاستكانة، وأذكر كأحد مظاهر الوعي المصاب والمحقون بالإيدز، أنّ أوسلو جعلت البيض يرمي الورود على قوات العدو"الإسرائيلي"، فيما إيدز الكونفدرالية سيجعلهم يسعون لنيل شرف التتويج ببساطير جيش العدو، فأيّ خيار غير خيار المقاومة هو جزءٌ من تمهيد الجسد لعمليات الحقن بالإيدز، وكل أشخاص ذلك الخيار أينما كانت مواقعهم، هم المشرفون المؤتمنون أمريكياً و"إسرايلياً" على عمليات الحقن، لذلك يجب الخروج من ظلمات السلم والتهدئة والمفاوضات إلى نور المقاومة، خصوصاً أنّ العدو لا يجادل في أطماعه، ويريد لنا أنّ نجادل في حقوقنا، وكلما تجادلنا أكثر تآكلت حقوقنا وتآكلنا معها أكثر، فلنعد للنقطة الأولى، فلسطين من بحرها إلى نهرها تخضع لاحتلال، ولا حلول سوى بمقاومته ودحره، وموازين القوى تعمل زمنياً لصالحنا.