نحن مفجوعون الآن يا ياسر، نمارس الكتابة فقط عنك بعد الغياب، كأن الدموع التي لا نبكيها يا زميلنا الراحل تتحول بلا إرادة منا إلى كلمات، تنعيك حروفنا، فهل نستطيع فعل أكثر من ذلك!
لن تكون مقدمة أي قصة صحفية عنك تقليدية، فأنت صديق الجميع، صاحب حلم السفر وتصوير غزة من فوق السحاب. هذا الحلم الكبير، الذي بدا مستحيلاً، قال الجميع إنك حققته بعد استشهادك. فهل ننظر إلى السماء في انتظار “فلاش” كاميرتك، تريد أن تلتقط الصورة الآن وأنت في طريقك إلى الجنة! أليس كذلك؟
ياسر مرتجى.. العدسة التي لا تغلق
ياسر مرتجى، المصور الصحفي من مؤسسة “عين ميديا”، كان ينقل الصورة من الخط الفاصل شرقي القطاع بكل وضوح. عدسته لا ترتجف، وابتسامته لم تغب رغم الغاز المسيل للدموع الذي اعتاد استنشاقه في كل مرة. كان يرتدي درعه الصحفي الكحلي، لكن درعه لم يحمه من رصاصة استقرت في جسده، تماماً في الجزء المكشوف.
الشاب ذو الثلاثين عاماً، غادر هذه المرة دون أن يلتقط صورةً لابنه “عبد الرحمن”، دون وداع لعائلته، فقط درعه -رفيقه الدائم- ظل متشبثًا بنعشه، كأنه يشم آخر القُبلات التي طُبعت على وجهه الأسمر النائم. كان أصدقاؤه يتزاحمون لتوديعه، يوقفون جنازته في منتصف الشارع، يتحسسون جسده المغطى بعلم فلسطين، يده كانت مخبأة، ووجهه المكشوف، جبينه البارد، كان مهبط القُبلات الأخيرة.
الرصاصة التي أوقفت الحلم
لحظات الاستهداف الأخيرة
رشدي السراج، زميل ياسر، كان صوته متعباً صباحاً قبل أن ينتقل جسده إلى بيته الأخير. كان يظن أن صديقه سينجو رغم الإصابة القاتلة، احتاج فقط للمزيد من وحدات الدم. كان يتمنى أن يتعافى ياسر ويعود للتصوير كعادته.
“كنا على بعد 300 متر من القناصة، كانت كاميرا ياسر على وضع الريكورد، تصور تلقائيًا، فجأة رأيته يسقط أمامي، والدم يتسرب من جسده. استمرت كاميرته في التصوير حتى بعد سقوطه”، قال رشدي.
الإصابة القاتلة
الإصابة كانت مدمرة، فالطبيب في مستشفى ناصر بخان يونس، مازن صافي، قال إن الرصاصة المتفجرة مزقت الكبد والطحال والكلى والشرايين والعضلات. رغم محاولات الأطباء، لم يكن بالإمكان إنقاذه.
الإصابة كانت مباشرة، مما يجعلها اغتيالًا متعمدًا لصحفي يحمل كاميرته ويرتدي درع الصحافة.
احتياجه للدم.. وصرخات الأصدقاء
عندما سقط ياسر جريحًا، كانت وحدات الدم هي الأمل الوحيد لإنقاذه. صرخ الجميع في مواقع التواصل الاجتماعي:
- “الصحفي الدمث يحتاج للدم من فصيلة A+”
- “أنقذوا ياسر، يحتاج لأربع عشرة وحدة دم على الأقل”
- “ساعدوا في إنقاذ من نقل لكم الحقيقة دائمًا”
لكن النزيف كان أسرع من أي استجابة، وكان الموت أقرب.
جدول: تفاصيل إصابة ياسر مرتجى وتأثيرها
الجزء المصاب | التأثير الطبي |
---|---|
الكبد | تمزق حاد ونزيف داخلي |
الطحال | تحطم جزئي وفقدان وظائف |
الكلى | فشل وظيفي بسبب النزيف |
الشرايين | انقطاع تدفق الدم الرئيسي |
العضلات | تلف شديد بسبب الرصاصة المتفجرة |
الحلم الذي طار إلى السماء
كان ياسر يحلم بالسفر، كان يقول دائمًا “الناس ولدوا ليتنقلوا”، وكان الموت يرد عليه قائلاً: “أنا أحقق هذا الانتقال أيضًا”. ومع ساعات الفجر، سحب الموت الصحفي معه، دون حقيبة، ودون تذكرة عودة.
مشاهد العزاء والوداع
كانت جنازة ياسر مشهدًا قاسيًا، لم يرها لكنه كان الحدث الأكبر فيها. احتشد أصدقاؤه وزملاؤه، كلهم يحملون ذكرى معه، كلهم يتذكرون ابتسامته.
مشاهد الجنازة المؤثرة:
- الزملاء يوقفون الجنازة ليودعوه
- دموع الأصدقاء تسبق المشيعين
- علم فلسطين يغطي الجسد الطاهر
- كاميرته تُرفع في الهواء وكأنها تبحث عنه
غزة من السماء.. آخر الصور
لعل الحلم قد تحقق يا ياسر، لعل المعبر قد فُتح لك وحدك، لترى غزة من الأعلى كما كنت تحلم. ستراها حيث تبدو صغيرةً، ألوانها متداخلة، بحرها أزرق، مزارعها خضراء، وشوارعها جرداء. سترى تناقضها، تفهمه، وتُفسر تشبث موتها بالحياة.
إن الله كريم يا ياسر، كريم جدًا، وأنت تستحق.